تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق: أسئلة مفتوحة بعد صدمة وطنية

داما بوست -أحمد موسى

في الثاني والعشرين من حزيران/يونيو 2025، شهدت دمشق واحدة من أعنف الهجمات التي تستهدف حيًّا مسيحيًّا في تاريخها الحديث. إذ استهدف انتحاري كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة، مخلفًا 25 شهيداً و63 جريحًا. الهجوم، الذي يُعد الأول من نوعه على كنيسة دمشقية منذ أكثر من 150 عامًا، أحدث صدمة جماعية، وطرح أسئلة كثيرة حول الجهة المنفذة، وطبيعة الرد الأمني، وتبعات المشهد على الخطاب الديني والاجتماعي في البلاد.

إقرأ أيضاً: شهداء وجرحى جراء تفجير انتحاري في كنيسة مار إلياس بدمشق

الاتهام المبكر: داعش قبل التحقيق؟

في بيانها الأول بعد ساعات من التفجير، أعلنت وزارة الداخلية أن “انتحاريًا يتبع لتنظيم داعش” دخل الكنيسة وأطلق النار قبل أن يفجّر نفسه، ورغم أن الوزارة أشارت إلى أن العملية لا تزال قيد التحقيق، إلا أن توجيه الاتهام لتنظيم بعينه بهذه السرعة، من دون عرض أدلة واضحة، أثار ردود فعل متباينة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث اعتبر البعض أن الرواية جاءت متسرعة، فيما رأى آخرون أن طبيعة الهجوم تتسق مع نمط عمليات داعش.

القبض على الخلية: عملية أمنية سريعة

خلال 24 ساعة من الحادثة، أعلنت وزارة الداخلية أنها تمكنت من إلقاء القبض على أفراد الخلية المنفذة، عبر عملية أمنية استهدفت مواقع في ريف دمشق، وفي مؤتمر صحفي، صرّح المتحدث باسم الوزارة، نور الدين البابا، أن الخلية مكوّنة من عناصر غير سوريين، قدِموا من مخيم الهول عبر البادية، ونفّذوا الهجوم بمساعدة شخص يُدعى “أبو عماد الجميلي”. وأضاف أن الانتحاري الثاني، الذي أُلقي القبض عليه، كان يستعد لتفجير مماثل في مقام السيدة زينب.

الجهة المنفذة: روايات متضاربة ونمط جديد؟

فيما كانت وزارة الداخلية تؤكد أن المنفذين يتبعون تنظيم “داعش”، ظهر بيان على قناة عبر “تلغرام” تبنّي خلاله تنظيم ما يعرف بـ”سرايا أنصار السنة” للعملية، واصفًا الهجوم بأنه “رد على استفزازات من نصارى دمشق في حق الدعوة وأهل الملّة”، وذكرت في بيانها اسم ” محمد زين العابدين أبو عثمان “، على أنه الانتحاري الذي نفذ العملية، ونفت تبعية المنفذ لداعش، واتهم البيان الإعلام الرسمي بـ”فبركة رواية بلا دليل”.

هذا التناقض في الروايات يطرح تساؤلًا أوسع حول المشهد الجهادي في سوريا بعد الحرب: هل بدأت تظهر جماعات جديدة، غير مرتبطة بالتصنيف التقليدي لداعش أو النصرة، تستفيد من الفوضى وتقدّم نفسها كلاعب مستقل؟ أم أن ما يحدث هو إعادة تدوير لأسماء وتكتيكات، ضمن سياقات أمنية جديدة أقل شفافية؟ هشاشة التصنيف الأمني بعد 2025، في ظل غياب رقابة إعلامية وقضائية فعلية، تُعقّد من فهم طبيعة التهديد.

إقرأ أيضاً: الداخلية السورية: عملية أمنية ضد خلية مرتبطة بتفجير كنيسة “مار إلياس”

قسد ترد: اتهامات باطلة أم تصفية حسابات؟

لكن الرواية الرسمية لم تمرّ بهدوء. قوات سوريا الديمقراطية (قسد) سارعت إلى النفي ردًّا على تصريحات الداخلية السورية، بأن يكون منفذو الهجوم قد خرجوا من مخيم الهول، وأكدت في بيان أن أجهزتها الأمنية دققت سجلات الخروج من المخيم، وأن جميع المغادرين خلال الأشهر الماضية كانوا من السوريين، وبناءً على تنسيق رسمي مع الحكومة السورية.

واعتبرت قسد أن هذا الاتهام ينفي الفرضية التي تقدم بها المتحدث باسم وزارة الداخلية، نور الدين البابا، حول انتقال الانتحاريين الاثنين “من جنسية غير سورية” من مخيم “الهول”، داعيةً الحكومة في دمشق إلى إجراء تحقيقات “شفافة ودقيقة” وإعلانها للرأي العام مع الأدلة

الاتهامات بين الحكومة السورية وقسد بمسؤولية غير مباشرة عن تسلل متشددين من مناطق خارجة عن سيطرتها هي اتهامات مستمرة ويمكن لمسها بشكل واضح على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن هذه الاتهامات بين الطرفين غالبًا ما تُغلف بغطاء أمني، يخفي خلفه صراعًا سياسيًا أشد تعقيدًا. يرى البعض هذا الاتهام محاولة لإعادة رسم خطوط “المسؤولية الوطنية” أو على أنه فصل جديد من المواجهة المستترة بين دمشق والإدارة الذاتية. تبقى الأسئلة مفتوحة، خاصة في ظل دعوة قسد إلى تحقيقات شفافة، وهو ما لم تعلق عليه دمشق حتى لحظة كتابة هذا المقال.

إقرأ أيضاً: قسد تنفي رواية الداخلية بشأن تفجير مار إلياس: لا صلة لمخيم الهول بالانتحاريين

المفارقة الصادمة: سيارة مسروقة ضمن الرتل الأمني

في تطور غير متوقع، لاحظ أحد المواطنين من صحنايا ظهور سيارته المسروقة ضمن رتل وزارة الداخلية، في الصور الرسمية التي نشرتها الأخيرة عن العملية الأمنية ضد الخلية. السيارة، وهي من نوع “همر”، كانت لا تزال تحمل لوحتها الأصلية المسجلة باسم صاحبها.

المواطن، الذي تحدث إلى صفحات محلية، أوضح أنه أبلغ رسميًا عن سرقتها خلال اقتحام أمني سابق في منطقته قبل شهرين، لكنه فوجئ بأن البلاغ لم يُسجَّل لدى الجهات المعنية. حادثة السيارة المسروقة ليست مجرد تفصيل، حيث أثارت موجة من التساؤلات حول مدى التزام الأجهزة الأمنية بالإجراءات القانونية، وكيفية استخدام ممتلكات مدنية في عمليات رسمية دون إشعار أو تحقيق.

صوت من الداخل: شهادة مؤلمة

في ظل الضجة السياسية، لم يغب الصوت الإنساني عن المشهد. ريم حداد، سيدة خمسينية من سكان حي الدويلعة، فقدت زوجها في التفجير، تحدثت لإحدى الصفحات المحلية قائلة: “كان يوم أحد عادي… كنا سنذهب معًا إلى الكنيسة كالعادة. لكنه سبقني بخمس دقائق. كل شيء تغيّر بعدها.”
تضيف: ” لا أريد اتهامات، أريد أن أعرف لماذا لم تُحم الكنيسة، ولماذا لم يكن هناك من يردع هذا الانتحاري؟ نحن لسنا أعداء أحد.”

شهادتها تلخص معاناة المدنيين الذين لا يبحثون عن سرديات أمنية أو سياسية، بل عن إجابة واحدة: لماذا تُترك أرواحهم عرضة للانفجار، حتى في بيت العبادة؟

خطاب البطريرك يثير انقسامًا

في أول تعليق كنسي بعد التفجير، حمّل بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، يوحنا العاشر اليازجي، الحكومة السورية المسؤولية عمّا جرى، قائلاً: “نناشدكم، سيادة الرئيس، بحكومة لا تتلهى بقرارات بل حكومة تتحمل المسؤولية وتشعر بأوجاع شعبها.”

لكن هذا التصريحات، قوبلت بحملة انتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي. اتهمه البعض بـ”تسييس المأساة”، فيما دافع آخرون عن حقه في تحميل المسؤولية، مؤكدين أن الكنيسة لا تعيش خارج الواقع. اللافت أن الحملة ضد البطريرك بدت شديدة التنسيق، ما أضعف مصداقية الغضب الشعبي، وأعاد النقاش إلى سؤال قديم: من يُسمح له بالكلام في الشأن العام؟ ومتى يُمنع؟

تساؤلات مشروعة… وإجابات غائبة

تفجير كنيسة مار إلياس فتح ملفات تتجاوز هوية المنفذ، إلى علاقة الدولة بالمؤسسات الدينية، وفعالية الأجهزة الأمنية، وشفافية الخطاب الرسمي. الحديث عن خلايا إرهابية تتسلل من مخيمات خارجة عن سيطرة الحكومة، يقابله شكوك حول توظيف الحوادث لتعزيز روايات سياسية أو قمعية.

أما قصة السيارة، وشهادة ريم، فتعيدان إلى الواجهة أزمة الثقة بين المواطن والسلطة، وتثيران سؤالًا أبسط من كل الروايات: من يحمي المواطن، حين لا تُحترم ملكيته ولا تُؤخذ شهادته بجدية؟

ليست القصة فقط في عدد الضحايا أو هوية المنفذ، بل في الطريقة التي يُدار بها الحزن، وتُدار بها الحقيقة. في بلد جريح، لا يُغتفر أن يُعاد إنتاج الخوف والضبابية بعد كل مأساة، بدلاً من تقديم رواية موثقة ومسؤولة تعيد للناس شيئًا من ثقتهم المفقودة. فهل نرى تحقيقًا شفافًا؟ أم نُضيف هذه الحادثة إلى لائحة طويلة من الجرائم المؤجلة بلا محاسبة؟

إقرأ أيضاً: تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق: فشل أمني أم مقدّمة لصدع التعايش؟

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.