داما بوست – مارينا منصور | وسط الهدوء المخيّم شقّت صرخاتها المكان لتنذر ببدء العاصفة..سمعتُ صراخها وركضت فزعاً لا أعرف ماذا ينتظرني، فتحت باب منزلي وتجسّد المشهد أمامي.
رأيتها تصارع الموت..وتزحف على الأرض هرباً من كائن لا بشري يتربص بها، وقبل أن أتمكن من فعل أي شيء سحبها إلى داخل منزلهم وأغلق الباب بحركة سريعة واختفى صوت الصراخ!
لا إرادياً ركضت نحو بابه الذي أغلقه في وجهي ليكمل جريمته ويستفرد بفريسته، وبدأت أدقه بقوة وأصرخ به “افتح الباب وإلا رح دق للشرطة”
وما أثار الرعب في داخلي هو اختفاء الصوت من الداخل بعد أن كان الصراخ مدوياً، ونسجت عدة سيناريوهات لما يحدث كانت كلها تنتهي بموت زوجته على يده، واللافت في كل ما يحدث أن لا أحد من الجيران أو المارّين في الشارع أمام المبنى تجرّأ أن يسأل ما الذي يحدث، فالكل أصبح يمشي على مبدأ “الحيط بالحيط..ويا ربي السترة”
لم أستطع ألا أبالي مثلهم، شيء ما تحرّك في داخلي ودفعني لتبني الموضوع، فأنا أؤمن بمقولة “ليس حراً من يهان أمامه شخص ولا يشعر بالإهانة”، وأشفقت عليهم لكونهم أسرى أنفسهم قبل غيرهم.
دخلت إلى منزلي وأمسكت بهاتفي وأنا أرجف، وكأن المشهد حدث معي ولم أراه أمامي فقط، اتصلت بمحامٍ أعرفه لأسأله ماذا يجب أن أفعل لأن تفكيري شلّ فجأة، فأعطاني رقم الشرطة لأتصل بهم، أمر مضحك..مضحك للغاية، ففي أي بلد يحفظ الناس رقم الشرطة عن ظهر قلب تحسّباً لحدوث أي طارئ، لكننا نحن لا نعرف عند حدوث الطوارئ هل نجلس ونضع يدنا على خدنا ونندب؟ أم ندعي ونتأمل خيراً؟ وإن آخر ما يمكن لأي شخص التفكير به هنا هو طلب الشرطة ليستنجد بها.
اتصلت بالرقم وكما يقال “طلبت الشرطة”، وعدت أدراجي إلى جانب باب منزله لأسترق السمع، لكن أذناي شلّت عن العمل، وعاد الصمت مجدداً سيد الموقف، إلى أن سمعت أصوات أقدام على الدرج، وحركة سريعة كأنها أقدام طفولية عائدة من المدرسة ولا تصدق أن تطأ أقدامها المنزل حتى ترتاح، وصدق إحساسي لكنهم لم يكونوا على علم أنهم لن يجدوا الراحة، بل سيجدون أباهم يُجرم بأمهم.
على الفور طلبت منهم أن يفتحوا الباب وهم مذهولون من استقبالي لهم بهذه الطريقة، فانفتح الباب تلقائياً لدى سماع أصوات وظهر “إبليس” على عتبة الباب شامخاً في محاولة منه لإضفاء الرجولة على كائن لا يشبه الرجال، وظهرت هي على الأرض ممسكة برأسها بين كفيها ويسير دمعها شلالاً، دمعةً لأنها شهدت “علقة موت” كما يقول المصريّون، ودمعة لأن أطفالها أمامها يرون جنّتهم تداس تحت الأقدام، ودمعةً لندمها على هروبها ذات ليلة دون موافقة أهلها إلى قدر سيذلها حتى مماتها، أو قدر سينتهي بمماتها.
أتت الشرطة في استجابة لم أشهد بسرعتها من قبل، وكان المشهد كافياً ليعبر عن الشكوى دون أن يشتكي أحد، لكنها وللمرة الألف خذلت نفسها وأطفالها وكرامتها وأهلها، ولم تتقدم بشكوى، ولم ترد تغيير قدرها.
فيبقى السؤال معلّقاً..لماذا لا نستطيع تغيير أقدارنا؟ ولماذا لا يوجد لدينا من يساعدنا على تغييرها؟
لا بد أنها فكرت ألف مرة قبل أن تعود إلى سجنها، فلا الوضع المادي يسمح لها بالعيش دون كنف زوجها، ولا غريزة الأمومة تجعلها تقبل بحياة تعلم تمام العلم أنها ستكون خالية من أطفالها، ولا أهلها الذين نسوا مقولة “العفو عند المقدرة” سيسمحون لها بالعودة إلى أحضانهم، ولا مؤسسات المجتمع تهتم بالنساء وتوفر لهم راحة ولو لحظية تكفل لهم دعماً وأماناً، وبنظر مجرم كهذا القانون شفاف لا يراه، باختصار..حتى الخير لا ينتصر على الشر سوى في القصص الخيالية.