عودة معامل حلب إلى العمل: إعادة تشغيل محدودة أم بداية مسار تعافٍ صناعي؟
مع عودة عدد من المعامل في مدينة حلب إلى العمل خلال الفترة الماضية، تجدد النقاش حول طبيعة هذه العودة وحدودها الاقتصادية، وما إذا كانت تعكس مؤشرات تعافٍ حقيقي في القطاع الصناعي، أم أنها تندرج ضمن خطوات تشغيلية مؤقتة فرضتها الظروف الراهنة.
وبين قراءات متفائلة ترى في إعادة تشغيل المعامل علامة على استعادة النشاط الصناعي، وأخرى أكثر حذرًا تعتبرها مجرد محاولة للبقاء والاستمرار، تبرز الحاجة إلى مقاربة اقتصادية أكثر واقعية، تضع ما يجري في سياقه الفعلي بعيدًا عن الأحكام المطلقة.
الصناعي ورئيس لجنة العرقوب الصناعية، تيسير دركلت، أوضح في حديث إلى موقع “عنب بلدي” أن ظروف الحرب فرضت نمطًا مختلفًا من العمل الصناعي، اقتصر في معظمه على إعادة إقلاع المعامل من الناحية التشغيلية فقط، بهدف تمكينها من تمويل نفسها بالحد الأدنى.
وأشار دركلت إلى أن الهدف الطبيعي للصناعة في الظروف المستقرة يكون تشغيليًا واستثماريًا في آن واحد، إلا أن هذا النموذج لم يتحقق في معظم الحالات الحالية.
منافسة وضغوط إضافية
من جهته، قال عبد المعين بودقة، صاحب معمل للأقمشة، إن التحديات التي تواجه المعامل اليوم لا تقتصر على قدم خطوط الإنتاج أو ارتفاع تكاليف الصيانة، بل تشمل المنافسة المتزايدة للبضائع الأجنبية في السوق المحلية.
وأوضح أن دخول منتجات مستوردة بأسعار أقل، وأحيانًا بجودة متقاربة، يحد من قدرة المعامل المحلية على التوسع أو زيادة الإنتاج، ويجعل أي استثمار في التحديث مخاطرة كبيرة.
مشيرًا إلى أن هذا الواقع كان له أثر مباشر على صناعات معينة، مثل صناعة الأحذية التي أغلقت نسبة كبيرة من معاملها نتيجة المنافسة مع المنتجات الصينية.
وأضاف أن هذا الضغط ينعكس على القدرة على الحفاظ على العمالة الكاملة أو التوسع في الإنتاج، ويدفع المعامل إلى التركيز على الحد الأدنى من الاستمرارية بدل التوجه نحو النمو.
كما أن ضعف القدرة الشرائية للمستهلك المحلي يزيد من هذه الصعوبة، إذ يميل كثير من المستهلكين إلى اختيار المنتجات الأرخص، حتى وإن كانت مستوردة.
وبيّن بودقة أن السوق المحلية تشكل حاليًا العمود الفقري لاستمرار المعامل، في حين يواجه أي توجه نحو التصدير قيودًا كبيرة، نتيجة ارتفاع تكاليف النقل وفقدان الأسواق التقليدية.
وأضاف أن خطوط الإنتاج القديمة تفرض عبئًا إضافيًا، بسبب حاجتها المستمرة للصيانة واستهلاكها المرتفع للطاقة مقارنة بالآلات الحديثة، ما يرفع تكاليف الإنتاج ويضعف القدرة التنافسية.
وأكد أن أي خطوة لتحديث المعدات تبقى مرهونة بضمان استقرار الطلب، لأن ضخ أموال في ظل ضعف القدرة الشرائية يمثل مخاطرة قد تهدد استمرارية المعمل.
ولفت إلى أن الاستراتيجية الحالية تتركز على تشغيل المعمل بالإمكانات المتاحة، وتلبية الاحتياجات الأساسية للسوق، مع مراقبة الأسعار والمنافسة الأجنبية.
وختم بودقة بالقول إن الصناعيين يحتاجون في هذه المرحلة إلى بيئة اقتصادية أكثر استقرارًا، ولو جزئيًا، مع إمكانية الحصول على تمويل محدود لتحسين خطوط الإنتاج تدريجيًا،
معتبرًا أن المرحلة الراهنة لا تسمح بخطط توسع كبيرة، لكنها تشكل أساسًا للحفاظ على الصناعة المحلية وتهيئة الأرضية لأي تطوير مستقبلي عند تحسن الطلب والأسواق.
قراءة اقتصادية أوسع
في قراءة أوسع للمشهد، يرى الخبير الاقتصادي عباس علي أن تقييم واقع القطاع الصناعي السوري اليوم يتطلب الابتعاد عن ثنائية التفاؤل المفرط أو التشاؤم القاتم، والاقتراب من منطق اقتصادي واقعي يراعي طبيعة الاقتصادات الخارجة من صدمات طويلة الأمد.
وأوضح علي، في حديث إلى عنب بلدي، أن التعافي في مثل هذه الحالات لا يبدأ بقفزات سريعة، بل بمراحل متدرجة تهدف في بدايتها إلى استعادة الحد الأدنى من الوظائف الاقتصادية.
واعتبر أن ما يجري حاليًا يمكن توصيفه كمرحلة إعادة تفعيل للقدرات الإنتاجية المتاحة، أكثر من كونه تعافيًا صناعيًا مكتمل الأركان.
وأشار إلى أهمية التمييز بين “الحركة الاقتصادية” و“النمو الاقتصادي”، موضحًا أن إعادة التشغيل تخلق حركة اقتصادية ضرورية عبر تشغيل العمال وتنشيط سلاسل التوريد وتدوير النقد.
لكنها لا تعني بالضرورة تحقيق نمو اقتصادي يتطلب رفع الإنتاجية وتوسيع الطاقة الإنتاجية وتحسين القيمة المضافة.
واعتبر أن المعامل القائمة، رغم محدودية إنتاجيتها، يمكن أن تؤدي دورًا مرحليًا في امتصاص البطالة وتوفير السلع الأساسية وتخفيف الضغط على الاستيراد، لكنها غير قادرة بمفردها على بناء دورة نمو طويلة الأمد.
وحول تركز النشاط الحالي في الصناعات الخفيفة والاستهلاكية، رأى علي أن هذا التوجه منطقي في ظل القيود التمويلية والبنيوية، نظرًا لسرعة دوران رأس المال وانخفاض تكلفة الدخول في هذا النوع من الصناعات.
معتبرًا أن إنتاج السلع الاستهلاكية الأساسية يعكس استجابة لطبيعة الطلب المحلي في المرحلة الراهنة.
وختم بالقول إن الصناعة السورية تتحرك اليوم في منطقة وسطى طبيعية لاقتصاد خرج من أزمة عميقة، حيث لا يمكن الحديث عن تعافٍ كامل ولا عن انهيار، بل عن مسار بطيء لإعادة بناء الوظيفة الاقتصادية، تمهيدًا لمرحلة أكثر تقدمًا إذا ما توفرت الشروط الاقتصادية اللازمة.
إقرأ أيضاً: المركزي السوري يحذّر من رفض فئات نقدية قبل قرارات استبدال العملة
اقرأ أيضاً:الإدارة الذاتية تعلن موازنة عام 2026 بنفقات تتجاوز 1.5 مليار دولار