“خرج ولم يعد”
في مساء 29 تموز/يوليو 2025، دخل يوسف اللباد، شاب دمشقي في الثلاثينيات، المسجد الأموي.
كان في حالة نفسية صعبة، كما تقول زوجته، لكنّه لم يكن يحمل سوى نفسه المثقلة.
بعد ساعات، وصل الخبر: يوسف قُتل تحت التعذيب على يد عناصر من “الأمن العام” داخل المسجد.
تقول زوجته في منشور على فيسبوك: “دخل ليصلّي… خرج محمولًا، بلا روح”.
هذه ليست قصة فردية، بل واحدة من عشرات الحكايات التي تتناثر في شوارع دمشق وأزقتها، حيث الاعتقال قد يأتي بلا سبب، والبيت قد يُصادر لأنك غائب أو لأنهم ببساطة يريدونه.
وجوه بلا أسماء… وأرقام تتجاوز الخيال
وفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تم توثيق مئات حالات الاعتقال التعسفي منذ بداية العام، بينها أطفال ونساء، نفّذ أغلبها “الأمن العام” التابع للحكومة الانتقالية.
الأمر لا يتوقف عند الاعتقال؛ كثيرون يختفون قسريًا، فلا خبر ولا أثر، إلا همس الجيران: “أخذوه من البيت فجراً، الله يستر”.
وفي حي القدم بدمشق، وثّقت منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة مداهمات ليلية واعتقالات بلا مذكرات قضائية، تبعتها حالات اختفاء قسري. بعض العائلات لم ترَ أبناءها منذ أشهر، وبعضهم عاد جثة هامدة.
حسام موراني… اسم مستعار في قائمة المفقودين
حسام موراني (اسم مستعار) واحد من هؤلاء الذين ابتلعهم الغياب.
بحسب شهادة عائلته، اعتُقل منذ أسابيع على أحد حواجز دمشق، ومنذ ذلك اليوم انقطعت كل الأخبار عنه.
جميع محاولات السؤال عنه — من مراجعة الفروع الأمنية إلى الاستعانة بوسطاء — باءت بالفشل.
وحسام ليس وحده؛ هناك عشرات الحالات المشابهة، ما دفع ذويهم للخروج في مظاهرات متكررة أمام مبنى الأمن السياسي في كفرسوسة.
المظاهرات قوبلت بالقوة؛ تفريق عنيف، مصادرة الهواتف، واعتقال بعض المشاركين، في مشهد يعيد للأذهان أكثر اللحظات قمعًا في تاريخ دمشق الحديث.
“بيتكم صار إلنا”
واحدة من أكثر الشهادات إثارة للغضب جاءت من عائلة علوية في ريف دمشق، حيث اقتحم عناصر الأمن المنزل، وأبلغوهم ببرود أن المنزل أصبح “ملك الدولة” وسيُسكن فيه أحد العناصر.
لا تعويض، لا إنذار… فقط قرار فوقي مدعوم بالسلاح.
مشاهد كهذه ليست جديدة على السوريين، لكنها تعود الآن في ظل سلطة جديدة وعدت بـ”العدالة الانتقالية”، بينما الواقع يسير في اتجاه آخر.
خط زمني للانتهاكات في دمشق (2025)
- يناير 2025:
- 229 حالة اعتقال تعسفي موثقة، بينها موظفون سابقون وأشخاص عادوا من المنفى.
- مداهمات في أحياء المزة وبرزة، ومصادرة ممتلكات بحجة “التحقيق الأمني”.
- فبراير 2025:
- 216 حالة اعتقال، بينهم 6 أطفال وامرأة.
- شهادات عن تعذيب معتقلين في فرع الأمن العام في كفرسوسة.
- مارس 2025:
- 117 اعتقال تعسفي، وعمليات اقتحام في حي القدم وحي التضامن.
- بداية تسجيل حالات اختفاء قسري لعائلات بأكملها، خصوصًا بين ذوي الأسماء العلوية.
- أبريل 2025:
- 89 حالة اعتقال، بينهم نساء وشبان في العشرينات.
- عناصر مسلحة تستولي على منازل غائبين وتمنحها لعناصر الأمن.
- مايو 2025:
- 157 اعتقال، منها 4 أطفال و3 نساء.
- زيادة ملحوظة في مصادرة الممتلكات الخاصة في أحياء المزة وكفرسوسة.
- يونيو 2025:
- استمرار المداهمات الليلية، وابتزاز مالي مقابل الإفراج عن المعتقلين.
- يوليو 2025:
- 109 حالة اعتقال، من بينهم 5 أطفال.
- 29 تموز: مقتل يوسف اللباد داخل المسجد الأموي.
- احتجاجات أمام الأمن السياسي في كفرسوسة بعد اختفاء حسام موراني وعشرات غيره، قُمعت بالقوة.
بين القانون والواقع
في 17 أيار/مايو 2025، أُنشئت “اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية” بمهام التحقيق في انتهاكات الماضي.
لكن النطاق الضيق لعملها، وتركيزها على جرائم النظام السابق دون التعمق في الانتهاكات الراهنة، جعلها عرضة للانتقاد.
فالضحايا الحاليون، مثل يوسف اللباد وحسام موراني، ما زالوا بلا عدالة… وبلا صوت رسمي يدافع عنهم.
دمشق التي نعرفها… ودمشق التي صارت
اليوم، تمشي في دمشق وأنت تحمل على كتفيك أسئلة كثيرة:
هل يختفي صديقك غدًا؟ هل يعود ابن الجيران؟ هل بيتك آمن؟
المدينة التي قاومت الحصار والحرب، تجد نفسها أمام سلطة جديدة تمارس، باسم الأمن، ممارسات تشبه كوابيس الأمس.
يوسف اللباد وحسام موراني ليسا أول الضحايا، وربما لن يكونا الأخيرين، لكن قصتهما تختصر المأساة: لا أحد آمن، حتى في بيت الله… أو في بيته.
إقرأ أيضاً: مقتل الشاب يوسف لباد في المسجد الأموي يثير جدلاً واسعاً
إقرأ أيضاً: الجهات القضائية السورية تغلق التحقيق بوفاة يوسف لباد وتعلن النتائج النهائية