الإخوان في سوريا 2025: هل هو تموضع سياسي أم محاولة للفرار من المسؤولية؟
في بيانها الصادر عن مجلس الشورى للجماعة، تعرض سردية “نصر” وانبعاث وطني، وتطرح خطابا يوحي بمرونة سياسية جديدة، إلا أن هذا البيان، رغم لغته التصالحية، يبقى مثقلا بإرث أيديولوجي مركّب، ويثير تساؤلات استراتيجية حول طبيعة التموضع المقترح، فهل تسعى الجماعة إلى الانخراط الفعلي في مشروع وطني جامع؟ أم أنها تعيد إنتاج دورها التقليدي في لحظة انتقالية مأزومة؟
خطاب التوفيق الإيديولوجي – «الداعم الناصح الأمين»
يبدأ البيان بتبجيل استعادة “وحدة سورية أرضا وشعبا”، وهي لغة توحي بانكفاءٍ تعبوي أكثر منه نقدا للمرحلة الماضية، ثم يعلن موقف الجماعة كـ”داعم ناصح أمين” للبناء المدني الحديث “بمرجعية إسلامية”، وهنا يكمن التوتر البنيوي بين رغبة الدخول في البناء الوطني وبين تكرار الالتفاف حول الحضور الإسلامي السياسي.
يمكن قراءة هذا الموقف الذي تتبناه الجماعة باعتبار نفسها “داعما ناصحا أمينا” للعهد الجديد، امتدادا طبيعيا لمسارها التاريخي في الموازنة بين العمل من داخل الدولة، ومحاولات التأثير عليها من خارجها، فمنذ خمسينيات القرن الماضي، ظلت الجماعة تتأرجح بين خطابي المشاركة والمعارضة الراديكالية، وفقا لموازين القوى وتقلّبات التحالفات الإقليمية.
لكن في لحظة تأسيس وطني فارقة يظهر سؤال جوهري؛ هل يكفي دور “الناصح” لتعريف الموقع السياسي؟ وهل يعبّر هذا الخطاب عن قناعة فعلية بالتحوّل نحو الخيارات المدنية والديمقراطية؟ أم أنه مجرّد تكتيك لغوي مرن يُتيح للجماعة الاحتفاظ بموقع مؤثر، بانتظار فرصة النفاذ السياسي في مراحل لاحقة من التحوّل؟
إن الغموض الذي يكتنف هذا الموقف، بين النصح والحياد والدعم المشروط، يُفهم كمناورة ذكية، ويعكس في نفس الوقت قلقا بنيويا من إعلان التزامات واضحة تضع الجماعة أمام استحقاقاتها تجاه مشروع الدولة المدنية التشاركية.
العدالة الانتقالية – شرطٌ لاستدامة الاستقرار؟
تُعدّ الإشارة إلى العدالة الانتقالية من أبرز النقاط العقلانية التي تضمنها البيان، حيث تلامس واحدة من أكثر القضايا حساسية في مرحلة ما بعد الصراع؛ من محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات إلى بناء مصالحة وطنية مستندة إلى الحقيقة والإنصاف، فالدعوة إلى العدالة الانتقالية تمثل اعترافا ضمنيا بأن أي بناء وطني لا يمكن أن يستقيم دون معالجة جراح الماضي، وهي نقطة تقرّب الخطاب الإخواني من الأدبيات الحقوقية والدستورية الحديثة، وتعزز من شرعيته الخطابية في المشهد الدولي.
لكن ما يضعف هذا المكسب الرمزي غياب أي إطار عملي مصاحب لهذا الطرح، فهل كانت الجماعة خلال سنوات الحرب جزءا من حراك حقيقي ينادي بالعدالة الانتقالية؟ وهل بادرت إلى دعم آليات توثيق الانتهاكات، أو التعاون مع منظمات المجتمع المدني والضحايا، أو على الأقل تبنّت تصورا لكيفية تحقيق هذه العدالة؟ أم أن ما ورد في البيان يظل مجرد توظيف انتقائي لمصطلحات رائجة، تفتقر إلى البرامج والوسائل؟ في غياب الإجابات الحاسمة، يبدو أن الطرح الإخواني للعدالة الانتقالية أقرب إلى “تجميل الخطاب” منه إلى تبنٍ فعلي لركائز العدالة والإنصاف، وهو ما يثير الشكوك حول جدية الالتزام من جهة، وحول القدرة على التنفيذ من جهة أخرى.

العيش المشترك وإعادة بناء الجسور – خطاب المواطنة
ينتقل البيان في جزء منه إلى خطاب وفاقي يدعو إلى “إعادة بناء جسور الثقة” بين مكونات المجتمع السوري، ويحثّ على تجاوز الخطابات الطائفية و”حسابات الطوائف”، مُعلِنا عن وثيقة جديدة تُعبّر عن رؤية الجماعة للعيش المشترك، وللوهلة الأولى، يبدو هذا التحول خطوة إيجابية باتجاه خطاب مدني جامع، غير أن هذا الطرح، يعيد من جديد صورة حركة الإخوان، فهل قامت الجماعة بمراجعة نقدية لمنظومتها الفكرية التي طالما رسّخت تصورا أحاديا للهوية الوطنية؟ فالتلويح بشعارات العيش المشترك لتجاوز عقود من الخطاب الإقصائي أو الشعور بالمظلومية لا يكفي في ظل التراث الفكري للجماعة.
الجماعة وفق الأدبيات المتاحة لم تقم بإعادة تعريف علاقتها مع الأقليات والمكونات غير السنيّة في سورية، وليس هناك “تصريح” واضح بأن هذه الأطراف شريك في رسم البرامج السياسية، والخطاب الجديد لا يزال يتحرك ضمن منطق الجماعة كفاعل سياسي “أصيل”، يرى في الآخرين مجرد حلفاء ظرفيين، فهذه الأسئلة تضع الوثيقة الجديدة في موقع اختبار حقيقي لقدرة الإخوان على القفز من الهامش الطائفي إلى فضاء المواطنة التشاركية.
البيان في نهايته ينادي لـ”وحدة الصف واجتماع الكلمة” في ظل ظرف وطني حساس، ولكن الفعل السياسي مازال غامضا؛ وسط غياب أي تحالف سياسي واسع للجماعة أو مبادرة وطنية شاملة، فالبيان يبدو مجرد توجيه معنوي لا يترجم على الأرض، وهنا يتكرر نمط الهيمنة الخطابية دون القدرة التنظيمية أو السياسية.
يتلخص خصائص بيان الجماعة من خلال ثلاثة محاور نقدية:
- الخطاب والتكتيك السياسي، فالبيان يوازن بين الاعتدال الظاهري والتشبث بالأطر الإسلامية، محاولا إبقاء اليد على “الوعي الوطني” مع الحفاظ على هوية الجماعة الإسلامية، لكن دون وضوح عملي.
- التركيز على الأداة دون الأيديولوجيا، حيث يتكرر الحديث عن المبادئ (وحدة الوطن، العدالة الانتقالية، العيش المشترك)، إلا أن غياب الرؤية العملية يجعل من البيان أداة لتعزيز الحضور فقط، لا لإعادة بناء المشروع السياسي.
- غياب البنية التنظيمية الجذرية فيتم التحدث عن الثغرات والتراث وقيم الثورة، لكن دون إخراج وثيقة العيش المشترك من نطاق الورق إلى الفعل المجتمعي، فالبيان ليس إعلانا سياسيا تحوليا، بل خطابا تسويقيا لصورة الجماعة الجديدة.
بيان 7 أغسطس 2025 من منظور مؤسسي محاولة إظهار “إخوان سورية” كقوة مدنية فاعلة، ملتزمة ببناء الدولة المدنية، دون التخلي عن المرجعية الإسلامية، وفي غياب مشروع سياسي مؤسسي وطني متكامل، يظل البيان مشهدا رمزيا أكثر منه واقعا ملموسا.
الجماعة بحاجة إلى تجاوز خطاب التذكير والمشاعر، نحو تفاهمات وطنية حقيقية وشراكات موسعة، وإلا فإن البيان سيُكتب ضمن تاريخ “مواءمة الجمهور” لا تأسيس الدولة.
إقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون في سوريا يصدرون بياناً شاملاً: رؤية للمرحلة الجديدة بعد التحرير
إقرأ أيضاً: الشرع بين الوحدة والتقسيم .. تناقض الخطاب والأداء السياسي