اتفاق أنقرة ودمشق: شراكة أمنية لكسر الهيمنة الإسرائيلية أم تنافس نفوذ في سوريا؟
في آب/ أغسطس 2025، تستعد دمشق وأنقرة للإعلان عن اتفاقيات أمنية وعسكرية غير مسبوقة تتضمن إنشاء قواعد عسكرية تركية في مواقع استراتيجية كـ”تدمر”، و”تيفور”، و”منغ”، إلى جانب دعم استشاري للقوات المسلحة السورية، في خطوة تبدو للوهلة الأولى وكأنها محاولة تركية لتعزيز نفوذها في العمق السوري. لكن في جوهرها، تطرح هذه الاتفاقيات تساؤلات أكبر حول طبيعة التوازنات العسكرية والسياسية في سوريا، وتفتح الباب أمام مقاربة جديدة للصراع غير المعلن بين أنقرة و”تل أبيب” على الأرض السورية.
نفوذ مقابل نفوذ؟
منذ سقوط النظام السوري في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، تسارعت التحركات الإسرائيلية جنوب سوريا، حيث بات واضحًا أن “تل أبيب” لم تعد تكتفي بالغارات الجوية، بل مضت نحو تأسيس وجود ميداني مباشر في جبل الشيخ والقنيطرة وأجزاء من درعا. هذا التوغل الإسرائيلي، الذي تجاوز الطابع الاستخباراتي أو الردعي، كشف عن مشروع جغرافي-أمني متكامل، يهدف إلى ربط الجولان بمناطق الجنوب السوري، عبر تفاهمات أمنية غامضة مع قوى محلية.
في هذا السياق، يبرز الاتفاق التركي-السوري كمحاولة لفرملة المشروع الإسرائيلي، أو على الأقل لإعادة ضبط إيقاع التوازنات الميدانية. كما أن الدعم التركي للجيش السوري يعيد إلى دمشق شيئًا من القدرة على فرض معادلاتها في حماية الأجواء والسيادة.
لكن السؤال الأهم: هل أنقرة في وارد الاصطدام المباشر مع “تل أبيب”؟ أم أن تحركها يأتي ضمن استراتيجية أوسع لتعزيز النفوذ، دون نية الدخول في مواجهة؟
من دمشق إلى تيفور… حسابات تركية متعددة
لا يمكن قراءة التحرك التركي في سوريا على أنه رد فعل على التمدد الإسرائيلي. فأنقرة تدرك أن مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق، وما تبعها من فراغ أمني ومفاوضات دولية شاقة، تمثل فرصة نادرة لترسيخ حضور طويل الأمد في دولة كانت لعقد مضى ساحة خصومة مفتوحة معها.
أنقرة تسعى اليوم إلى تعزيز عمقها الاستراتيجي في المشرق، وإلى لعب دور الراعي الإقليمي الجديد لدمشق، بديلًا عن إيران التي تراجع حضورها تحت ضغط الغارات الإسرائيلية والتغيرات السياسية. من هنا، فإن تركيا ليست بصدد “ردع إسرائيل” فحسب، بل تحاول فرض معادلتها الخاصة، وتثبيت خطوط تماس دائمة تحصّن مصالحها الأمنية، وتمنحها ورقة قوية في أي تسوية مستقبلية حول سوريا.
من جهة أخرى، يبدو أن دمشق تتعامل مع هذا التحالف من منطلق براغماتي. فالقواعد التركية تمنحها دعمًا ميدانيًا حقيقيًا، وقدرة على إعادة هيكلة جيشها تحت غطاء إقليمي، دون أن تظهر علنًا بمظهر التابع، وهو ما يُفسر الغموض الإعلامي الذي يلف تفاصيل الاتفاقات.
مخاوف إسرائيلية وتصعيد محتمل
إسرائيل تدرك حجم التحدي. الغارات على تيفور وتدمر في آذار/ مارس الماضي لم تكن مجرد عمليات استباقية، بل رسائل واضحة موجهة لتركيا بأن خطوط “الهيمنة الجوية” الإسرائيلية لا تزال قائمة، ولن يُسمح بتجاوزها بسهولة. في المقابل، لا يبدو أن تركيا تتهيّب هذه الرسائل، بل على العكس، مضت في تثبيت وجودها العسكري، وأرفقته بتصريحات تؤكد أنها لن تتسامح مع أي تهديد لمصالحها في سوريا.
وبينما سعت باريس لاستضافة مفاوضات إسرائيلية-سورية برعاية فرنسية-أمريكية، لا تزال الخطوط الجيوسياسية في الجنوب السوري ترسم بأدوات عسكرية أكثر من كونها تُبنى على التفاهمات الدبلوماسية. إذ تشير التسريبات إلى أن “إسرائيل” ترفض الانسحاب من مواقع استراتيجية كجبل الشيخ، وتسعى إلى تثبيت وجود دائم في القنيطرة ودرعا، مع محاولة فرض إدارة ذاتية في السويداء برعاية أمريكية.
معادلة جديدة: تركيا في الوسط، “إسرائيل” في الجنوب، ودمشق بينهما
التفاهمات السورية-التركية قد تعيد رسم الخريطة الأمنية في سوريا. فإذا ما نجحت هذه الاتفاقيات في فرض واقع جديد شمالي-وسط البلاد، مقابل تمدد إسرائيلي جنوبًا، فإن سوريا قد تدخل مرحلة “توازنات النفوذ”، بدلًا من “الفراغ الاستراتيجي” الذي ساد عقب سقوط النظام.
لكن هذا السيناريو يحمل مخاطره أيضًا. فـ “إسرائيل” إذا ما شعرت أنها قد تفقد تفوقها الجوي في بعض المناطق سوف تتجه إلى التصعيد، وربما توسيع دائرة حلفائها المحليين كـ”قسد” أو جهات في السويداء، ما يهدد بنشوء تحالفات مضادة تزيد من تفتيت المشهد السوري. كما أن انخراط تركيا بهذا العمق قد يجعلها طرفًا مباشرًا في أي مواجهة إقليمية قادمة، خصوصًا إن تعثرت مفاوضات “منع الاشتباك” التي تُدار في باكو.
هل بدأت معركة النفوذ الكبرى؟
ما يجري اليوم في سوريا ليس مجرد ترتيبات أمنية، بل إعادة تعريف لجغرافيا النفوذ الإقليمي. تركيا تتحرك بحذر وحزم لبناء شراكة مع دمشق، تحصن بها أمنها القومي وتعيد موطئ قدمها في عمق الشام، بينما تسارع “إسرائيل” إلى تثبيت خطوط تماسها في الجنوب، خوفًا من خسارة موقعها كقوة متفوقة ومهيمنة.
وفي ظل هذا التجاذب، هل تنجح دمشق في الاستفادة من التناقضات لتعزيز سيادتها؟ أم أن البلاد مقبلة على مرحلة “تقاسم نفوذ” بمسميات جديدة؟
إقرأ أيضاً: موقع المونيتور: أنقرة تضغط لإفشال محادثات باريس خشية تعزيز النفوذ الكردي بدعم فرنسي
إقرأ أيضاً: دبابات في الفراغ: هل يستمر التمدد “الإسرائيلي” بعد سقوط بشار الأسد؟