في الوقت الذي أعلنت فيه وزارة العدل في الحكومة السورية الانتقالية عن تشكيل لجنة للتحقيق في مجازر السويداء، تصاعدت مواقف الرفض من داخل المدينة، ليس فقط على مستوى الشارع، بل أيضًا من داخل المرجعيات الروحية والقانونية والمجتمعية. حالة من الإجماع تتبلور: لا ثقة بلجنة دمشق، ولا قبول لها لا على الأرض، ولا حتى عبر الاتصالات الهاتفية.
في حين تُصرّ الحكومة السورية، عبر وزارة العدل، على التمسك بمبدأ “التحقيق الذاتي”، عبر لجنة جديدة بعد تلك التي شُكلت على خلفية أحداث الساحل للتحقيق عُيّن لها مقر دائم في دمشق، ورئيس ونائبة ومتحدث إعلامي، ووعود كبيرة بالشفافية والاستقلال. لكن في السويداء، الصورة مختلفة تمامًا.
إقرأ أيضاً: أحداث السويداء: سقوط أكثر من 1,500 قتيل و312 مدنيًا أُعدموا ميدانيًا
صراع لجنتين وسرديتين: من يكتب الحقيقة؟
يشير مصدر خاص مقرّب من الشيخ حكمت الهجري لـ”داما بوست” إلى أن الرئاسة الروحية في السويداء رفضت بشكل قاطع السماح للجنة الحكومية بدخول المدينة أو التعاون معها بأي شكل من الأشكال. الموقف لا ينبع فقط من فقدان الثقة بالجهات الرسمية، بل من قناعة راسخة بأن اللجنة تفتقر إلى أي شرعية محلية، ولا تمثّل مصالح أو آلام الضحايا.
في المقابل، تشكلت لجنة أهلية مستقلة من قضاة ومحامين وناشطين مدنيين داخل السويداء، بدأت بمهمة توثيق الانتهاكات وفق آليات محلية مجتمعية. ووفق ما أكدته مصادر محلية لـ”داما بوست”، فإن هذه اللجنة لا تتبع للرئاسة الروحية، خلافًا لما يُشاع، بل هي نتاج شعبي ذاتي يعكس قناعة راسخة بأن العدالة لا تُطلب من المتهم، بل تُبنى من الداخل، وبالتعاون مع مؤسسات دولية مستقلة.
اللجنة المحلية شرعت فعليًا في جمع الشهادات، الصور، وتسجيلات الفيديو، وتواصلت مع جهات حقوقية دولية بهدف حماية الضحايا، وتحويل المطالب الشعبية بلجنة دولية محايدة إلى مسار قانوني ملموس.
هذا الواقع يكرّس انقسامًا بنيويًا في سردية ما حدث. فمن جهة، تقف لجنة حكومية تسعى لبناء روايتها ضمن المؤسسات الرسمية، ومن جهة أخرى، توجد لجنة محلية مدعومة شعبيًا تبني رواية بديلة تستند إلى معاناة الناس والحقائق الميدانية.
وبالتالي، فإن كل طرف بات يُعد روايته الخاصة، ويتواصل مع أطراف دولية منفصلة. هذا يُنذر بصدور تقارير متناقضة ومخرجات متباعدة تمامًا، حيث ستتبادل كل جهة تحميل المسؤولية للطرف الآخر، وتعمل على تسويق سرديتها كـ”الحقيقة الوحيدة”، ما يعقّد من إمكانية الوصول إلى عدالة موحّدة أو محاسبة فعلية.
اللجنة الرسمية: نوايا حسنة أم تغطية سياسية؟
في أولى اجتماعاتها، أعلنت اللجنة عن التزامها بالحياد والاستقلال، وحددت القاضي حاتم النعسان رئيسًا، والمحامي عمار عز الدين متحدثًا باسمها. كما تعهّدت بإرسال تقريرها النهائي إلى الأمم المتحدة، في محاولة لمنح عملها مصداقية دولية.
لكن هذه الوعود لم تنجح في اختراق جدار الرفض الشعبي. فقد أكّد مصدر أخر من داخل السويداء أن “اللجنة ممنوعة فعليًا من دخول المدينة”، مشيرًا إلى أن “كل من شارك في هذه المجازر لا يمكن أن يكون اليوم هو من يحقق فيها”.
لجنة الساحل، التي سبقت لجنة السويداء، تمثل بالنسبة للكثيرين في محافظة السويداء دليلاً على فشل النموذج الحكومي في تحقيق العدالة. حيث اعتبر أحد الناشطين في السويداء في حديثه لـ” الداما بوست” أن “تقرير لجنة الساحل لم تذكر أسماء الجناة الحقيقيين، بل قدّم روايات عامة، وتجاهل شهادات الضحايا، مما أدى إلى فقدان كامل للثقة”. وأضاف أن نتائجها أظهرت انحيازًا فاضحًا للدولة، من خلال عدم تحميل المسؤولية للسلطة السورية أو لأي مسؤول فيها.
وأكد: “إذا كانت الحكومة عاجزة عن محاسبة مرتكبي الجرائم في الساحل، فما الذي يجعلنا نثق بأنها ستفعل ذلك في السويداء؟ بل إن بعض المشاركين في مجازر الساحل، شوهدوا لاحقًا ضمن القوات التي دخلت السويداء”.
كما أثارت التصريحات الرسمية الصادرة عن وزارتي الداخلية والدفاع تساؤلات داخل السويداء، لا سيما بعد الإشارة إلى مرتكبي الانتهاكات بوصفهم “مجموعات مجهولة”. هذا التوصيف قوبل بتحفّظ من قبل ناشطين ومراقبين، رأوا فيه تناقضًا مع ما هو موثّق من معلومات وشهادات، تشير إلى معرفة مسبقة بهوية المتورطين، سواء من خلال صور أو مقاطع فيديو أو انتماءات أمنية وعسكرية تم تداولها علنًا، خاصة أن هذا التصريح قد صدر قبل أن تُشكّل اللجنة وقبل أن يتم أي تحقيق.
هذا التباين بين الرواية الرسمية وما يتداوله الشارع، فاقم من أزمة الثقة بين المجتمع المحلي والمؤسسات المعنية، وأعاد إلى الأذهان تجارب سابقة مثل لجنة “أحداث الساحل”، التي واجهت انتقادات مشابهة تتعلق بعدم الإفصاح الكامل عن النتائج أو تحديد المسؤوليات بشكل واضح
مطالبات بلجنة تحقيق دولية
ناشط قانوني من السويداء، شدّد لـ “الداما بوست” أن “اللجنة الحكومية لا يمكن أن تكون حيادية، لأنها أداة بيد الجهة المتهمة أصلًا”. وتابع: “المطلب الشعبي الحقيقي هو لجنة دولية محايدة، لا تنتمي لا للحكومة ولا للمجتمع المحلي، بل تخضع لقواعد العدالة الدولية”.
وأضاف: “نحن لا نطلب المستحيل، نطلب فقط أن يتم الاعتراف بالضحايا، وأن يتم توثيق ما جرى بوضوح: من قتل؟ من أعطى الأوامر؟ من أحرق البيوت؟ من أهان الرموز الدينية؟”.
في المقابل، تصر اللجنة الرسمية على أنها “ليست جهة قضائية، بل لجنة تجميع معلومات”، وأنها “مستقلة بالكامل”. كما أكدت أنها ستعمل على “إحالة المتهمين إلى القضاء المختص” في حال ثبوت التورط.
لكن هذه التصريحات الرسمية لا تلقى صدى في محافظة باتت تعتبر أن ما حدث فيها من انتهاكات لا يمكن أن يُحقّق فيه من قِبل الجهة ذاتها المتهمة بالمشاركة أو التغطية على الجرائم.
القاضية ميسون الطويل… لا تكفي
وجود القاضية ميسون الطويل، وهي من أبناء السويداء، لم ينجح في تهدئة الرفض العام. حيث قال الناشط: “هي شخصية محترمة، ونزيهة، لكنها ليست معروفة داخل المجتمع المحلي، ولا تمثّل رأيًا عامًا، ولا يمكنها أن تغيّر مسار لجنة كاملة”.
وأضاف: “وجود شخص واحد من السويداء لا يعطي اللجنة شرعية. نحن لا نريد تمثيلًا شكليًا، بل نريد لجنة مستقلة بالكامل”.
لجنة جديدة… لتجاوز إرث لجنة الساحل
لم تضمّ لجنة التحقيق المشكلة لأحداث السويداء أيّ عضو من لجنة “أحداث الساحل” السابقة، وهو ما يفسر على أنه رغبة رسمية في فصل المسارين. فبحسب تقديرات متداولة، فإن النتائج التي خرجت بها لجنة الساحل لم تحظَ بقبول شعبي واسع، ما جعلها محل انتقادات ورفض مسبق من جهات حقوقية وأهلية، وولّد حالة من انعدام الثقة المسبق بلجان التحقيق الحكومية.
ويُفهم من هذا الفصل بين اللجنتين، أن هناك محاولة لقطع الطريق على الاتهامات المسبقة بالتسييس أو تكرار النمط ذاته، خصوصًا أن تشابه نتائج لجنتي الساحل والسويداء – إن حصل – قد يضعف من المصداقية، ويعزز القناعة بغياب المساءلة الجدية.
العدالة بين الروايتين… ومصير الحقيقة
في ظل الانقسام الحاد بين روايتين ولجنتين، إحداهما رسمية وأخرى مجتمعية، تبدو العدالة في السويداء عالقة بين الشكوك والتشكيك. كل طرف يقدّم روايته ويُمهّد لمسار مختلف من التحقيق، بينما الضحايا ينتظرون اعترافًا واضحًا، ومحاسبة شفافة، وإجابات حقيقية عن أسئلتهم المؤلمة.
قد تكون اللجنة الحكومية ماضية في مسارها وفق صلاحياتها، فيما تواصل اللجنة الأهلية عملها بغطاء شعبي محلي متزايد. لكن ما بين الطرفين، يبقى التحدي الأكبر هو بناء سردية موثوقة تُقنع الداخل وتلقى احترام الخارج. وحتى يتحقق ذلك، تبقى الثقة مفقودة، والعدالة مؤجلة، والحقيقة أسيرة نزاع السرديات.
إقرأ أيضاً: غرفة العمليات العسكرية في السويداء: ننسق مع إسرائيل وأميركا لتشكيل لجنة تحقيق دولية
إقرأ أيضاً: ممر داود يعود للواجهة: تحالف جغرافي بين قسد ودروز السويداء يثير مخاوف تفكيك سوريا