لم تهدأ أزمة النيجر التي صارت حديث القارة الإفريقية والعالم بأسره عقب الانقلاب الذي قاده العسكريون فيها، لتستفيق القارة من جديد على وقع انقلاب مماثل في الغابون، الواقعة في غرب وسط إفريقيا، لتتسع دائرة الانتفاضات على الحكام الأفارقة وتزيد معها بؤر الصراع في هذه القارة.
فلم تطل المدة التي أعلن فيها عن فوز الرئيس “علي بونغو” بولاية ثالثة في الغابون، حتى تفجرت ثورة عليه وانقلب العسكريون في 30 أغسطس/ آب 2023، إذ بدأت الحكاية بإعلانهم إلغاء نتائج الانتخابات وحل مؤسسات الدولة وإغلاق حدود البلاد حتى إشعار آخر.
ووضع الانقلابيون الرئيس “علي بونغو” تحت الإقامة الجبرية، واعتقلوا أحد أبنائه وأعضاء بالحكومة بتهمة الخيانة العظمى، ولاقت انتفاضتهم تأييداً شعبياً، إذ خرجت مظاهرات داعمة للعسكريين الذين أطاحوا بالحكم.
وأحدث الانقلاب ردود فعل مناهضة ومنددة بما يجري، حيث علقت شركة التعدين الفرنسية “إراميت” كافة عملياتها في الغابون على وقع تطورات الأحداث، مع اضطراب دولي وقلق حول مصير الرئيس “علي بونغو” ومن وجهة النظر الأوروبية، ترى أن ما يحدث في غرب أفريقيا مشكلة كبيرة لأوروبا.
ونددت دول عدة بالانقلاب، ومنها فرنسا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة ونيجيريا إضافة لمنظمة التعاون الإسلامي والأمين العام للأمم المتحدة، معربين عن رفضهم لما يجري في الغابون، فيما أعلنت دول أخرى مراقبتها عن كثب لما يجري من تطورات.
يذكر أن “علي بونغو” يحكم الغابون منذ 14 عاماً، خلفاً لوالده عمر بونغو، الذي كان رئيسا للغابون منذ عام 1967 حتى وفاته في عام 2009، ونجا الرئيس “علي” عام 2019 من محاولة انقلاب فاشلة.
فرنسا تواجه إقصاء وجودها في القارة:
كان لباريس النصيب الأكبر من القلق، إذ بات الوجود الفرنسي في إفريقيا يجابه بمواجهة شرسة، تسعى لإقصائه كلياً من القارة الذي استمر استعمارها من قبله سنوات كثيرة، وانطلقت هذه المواجهة من مالي وبوركينا فاسو وامتدت للنيجر والآن الغابون.
وترى الباحثة في الشؤون الإفريقية، مديرة وحدة الدراسات الإفريقية بمركز المستقبل الإقليمي للدراسات الاستراتيجية “إيمان الشعراوي” في تصريح خاص لـ “داما بوست” أن فرنسا تعتبر سبباً رئيساً في حدوث هذه الانقلابات في القارة، بفعل ممارستها وسيطرتها على مقدرات وثروات هذه الدول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر والغابون، ونظراً لاعتماد فرنسا على ثروات هذه الدول ومواردها الطبيعية، وهو ما أكده الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، أنه “لا وجود لفرنسا في القرن الـ 21 دون أفريقيا، بحسب رأيها.
وبينما تروج أوساط إعلامية إلى أن ما يجري في القارة الإفريقية قد يحمل أبعاداً تفوق كونه انتفاضة شعبية، وبأن هناك دولاً قد تكون خلفاً لفرنسا في هذه القارة، تؤكد “الشعراوي” أن الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا يسعيان لأن يحققا وجوداً بديلاً عن فرنسا في هذه الدول، لكنها ترى أن باريس ستحاول قدر المستطاع أن تغير استراتيجيتها وخططها لتمنع هذا، خاصة في ظل التأييد الشعبي لهذه الدول لروسيا ورفعهم أعلامها خلال المظاهرات.
أسباب تفجر الانقلابات في إفريقيا:
وأرجعت الباحثة ظاهرة تفجير الانقلابات العسكرية بشكل متتالي في الفترة الأخيرة للكثير من الأسباب، وقالت “الشعراوي” إن أبرزها فشل هذه الدول في تطبيق الديمقراطية وتداول السلطة بشكل سلمي، مضيفةً.. “سعت النخبة السياسية في الدول الإفريقية للسيطرة على السلطة وإجراء انتخابات شكلية وتزوير النتائج والتصويت بشكل عرقي وذلك لضمان الفوز في السلطة والبقاء فيها مخالفة للدستور والقيم الديمقراطية”.
وأكدت الباحثة أن هذا السلوك يطرح الكثير من التساؤلات حول مدى صلاحية الديمقراطية الغربية للتطبيق في الدول الإفريقية ذات الطبيعة الإثنية والقبلية التي تتمتع بخصوصية ثقافية معينة، ضاربةً المثل بالغابون، وقالت.. “إن الرئيس “علي تونغو” تولى الرئاسة على مدى 14 عاماً فضلاً عن فوزه في ولاية ثالثة، محارباً المعارضة لترسيخ سلطته التي ورثها عن والده الذي حكم البلاد أيضاً لمدة 40 عام، ومحاولاً الاستئثار بالسلطة حتى موته، وهذه الممارسات تتعارض مع الديمقراطية وتعطي مبررات للمؤسسة العسكرية للقيام بانقلابات عسكرية مصحوبة بدعم شعبي”.
واستطردت الشعراوي، أن هناك أسباباً أخرى متعلقة بسوء الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفقر والمجاعات وذلك بالرغم من تمتع القارة الإفريقية بموارد وثروات طبيعية، لا يستفيد منها الشعب، مضيفة أن السلطة الحاكمة في معظم الدول الإفريقية تسيطر على خيرات هذه الدول من خلال الفساد السياسي والاقتصادي وباستخدام سياسات تكرس من بقائهم في السلطة.
ثروات القارة الإفريقية:
وتعد الغابون رابع أكبر منتج للنفط في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا حسب تقرير للبنك الدولي، وهي واحدة من أكبر منتجي المنغنيز في العالم، ويتم استغلال ومعالجة اليورانيوم بها منذ عام 1961. إضافة إلى استخراج الألماس والذهب أيضاً، وهناك احتياطيات من خام الحديد عالي الجودة، وفق دراسات عالمية.
وأشارت “الشعراوي” إلى أن القارة الإفريقية تتمتع بالكثير من الثروات والموارد الطبيعية حيث تملك 30٪ من احتياطات المعادن العالمية، و12٪ من احتياطات النفط المعروفة، و8٪ من احتياطات الغاز الطبيعي المعروفة، و65٪ من الأراضي الزراعية القابلة للزراعة، موضحة أن اعتماد الدول الإفريقية على تصدير المواد الخام بمختلف أنواعها، بسبب سطوة الشركات متعددة الجنسيات والافتقار إلى التصنيع الكافي في مجموعة من البلدان الإفريقية، جعلها في وضع الاعتماد على رأس المال الأجنبي مما اضعف اقتصادات هذه الدول بل أصبحت دولها تصنف الأكثر فقراً على مستوى العالم.
هل يتوقف حد الانقلابات عند الغابون؟
وبينما تعيش القارة الإفريقية على وقع انقلابات متتالية، تفجرت في العام 2020 في مالي، تلتها تشاد وغينيا في ذات العام 2021 لتحلق بهم بوركينا فاسو 2022 ومن ثم النيجر 2023 التي أحدث انقلابها صخباً لم يهدأ حتى اللحظة، وسرعان ما سارت خلفها الغابون لتتفجر الأوضاع فيها بشكل وصفه المراقبون لوضعها بـ “غير المفاجئ”.
تتوقع الشعراوي، أن تشهد القارة في الفترة القادمة المزيد من الانقلابات العسكرية، وتقول.. “يمكن أن يحدث ذلك في مناطق جغرافية أخرى وليس في غرب أفريقيا فقط، بسبب انتقال عدوى الانقلابات العسكرية لا سيما مع تشابه الاوضاع السياسية والاقتصادية وسوء إدارة الحكم، وهشاشة مفهوم الدولة والسلطة معاً”.
وظلت الغابون تنعم إلى حد ما بالاستقرار وارتفاع مستوى المعيشة مقارنة بالدول الأفريقية جنوب الصحراء، لكن الانقلاب الأخير إن كُتب له النجاح فقد يغير المشهد كلياً في هذه الدولة، من حيث التركيبة السياسية للحكم وعلاقات هذه الدولة، ويرى المراقبون أن جل ما يحدث في القارة الإفريقية عموماً نتاج تراكمات تاريخية وسياسية سابقة على مدى سنين، وقد تنفجر في أي لحظة.