في قرية عين العبد الواقعة قرب تل تمر بريف محافظة الحسكة، يقف المزارع الستيني “أبو دحام” مذهولًا أمام أرضه شبه الخالية من السنابل، بعد أن زرع أكثر من 5 هكتارات من القمح هذا العام. يقول بأسى: “لم أرَ موسمًا بهذا السوء في حياتي، حتى في سنوات الجفاف القاسية. الفرق اليوم هو أن البذور كانت غريبة عن أرضنا، ولا تنبت كما تعودنا”.
تصريحات أبو دحام تعكس أزمة حقيقية تعيشها الزراعة في شمال شرقي سوريا، حيث شهد إنتاج القمح انخفاضًا حادًا بنسبة تقارب 75% مقارنة بالأعوام الماضية، وفق بيانات رسمية وأممية. ويُعزى هذا التراجع إلى الجفاف الحاد من جهة، والبذور الأميركية المستوردة التي وُزّعت مجانًا من جهة أخرى، ما أثار جدلاً واسعًا في أوساط المزارعين والخبراء الزراعيين.
“فاو”: خطر على الأمن الغذائي السوري
بحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (FAO)، فإن الجفاف هذا العام يهدد بفشل نحو 75% من محصول القمح السوري، مما يعني عجزًا غذائيًا يُقدّر بـ2.7 مليون طن من القمح، وهي الكمية اللازمة لإطعام أكثر من 16 مليون شخص لمدة عام كامل.
البذور المستوردة لا تناسب التربة السورية
يشير المهندس الزراعي بشير محمد إلى أن البذور الأميركية “غير مُكيّفة” مع طبيعة التربة والمناخ في شمال شرقي سوريا، ويصفها بـ”الخطِرة”، لكونها لا تتحمل الجفاف، كما أدت إلى انتشار أمراض نباتية مثل فطر الإرغوت، الذي يُصيب سنابل القمح ويشكل تهديدًا للصحة العامة.
ويضيف محمد أن البذور المحلية كانت قد تكيّفت عبر عقود مع البيئة السورية، ويمكن للفلاحين إكثارها دون الحاجة لشرائها مجددًا. أما البذور المستوردة، فقد تم تعديلها وراثيًا بحيث لا تُستخدم لأكثر من موسم واحد، مما يضع المزارعين في دائرة استهلاك دائم، ويجعلهم رهائن للشراء السنوي بأسعار مرتفعة.
أرقام الإنتاج تكشف حجم التراجع
استنادًا إلى بيانات المكتب المركزي للإحصاء في سوريا ومنظمة الفاو والكتاب السنوي للإحصاءات الزراعية العربية، فإن إنتاج القمح السوري تراجع من 4.2 مليون طن عام 2010 إلى نحو 1.4 مليون طن فقط في 2023. ويلاحظ أن الانخفاض بات أكثر حدة بعد إدخال البذور المستوردة خلال السنوات الأخيرة، رغم تفاوت نسب الجفاف:
السنة | الإنتاج (مليون طن) |
---|---|
2010 | 4.2 |
2015 | 1.5 |
2020 | 1.8 |
2023 | 1.4 |
فلاحون تحت الضغط: ديون وتبعية اقتصادية
المزارع “باسل” من مدينة منبج يؤكد أن استخدام البذور الأميركية فاقم الأزمة، قائلاً: “كنا نحتفظ بجزء من المحصول كبذار للعام التالي، أما الآن فنضطر إلى شراء البذور كل سنة بأسعار مرتفعة”. وأوضح أنه استدان مبالغ كبيرة لشراء بذور الموسم القادم، مما يهدد استمرارية عمله في الزراعة.
“قسد” والسيطرة على السياسات الزراعية
منذ بسط قوات سوريا الديمقراطية (قسد) سيطرتها على شمال شرقي سوريا بدعم أميركي، بدأت الإدارة الذاتية بفرض سياسات زراعية جديدة. شملت هذه السياسات تغيير أنماط الزراعة، وتحديد أسعار المحاصيل، وفرض ضرائب، ومنع استخدام البذور المحلية.
بدلاً من ذلك، فرضت الإدارة بذورًا أميركية مستوردة لم تُجرّب مسبقًا في سوريا، ما أثار انتقادات واسعة من المزارعين والخبراء، الذين اعتبروا هذه الخطوة خطرًا استراتيجيًا على الأمن الغذائي السوري، خصوصًا في ظل ضعف المردود واعتماد الفلاحين القسري على الاستيراد السنوي للبذور.
قانونيًا: مخالفة واضحة لمبادئ الأمن الزراعي
يرى المحامي علاء برنية أن إدخال بذور غير مُجرّبة دون رقابة رسمية يمثل انتهاكًا لمعايير الحماية الزراعية، مؤكدًا أن “دولًا مثل الاتحاد الأوروبي تمنع استيراد بذور أجنبية دون تراخيص مشددة، حفاظًا على البيئة الزراعية المحلية”.
من “سلة خبز” إلى ساحة أزمة
في بلدٍ كان يُعرف بـ”سلة خبز المنطقة”، يعيش مزارعو شمال شرقي سوريا اليوم تحت وطأة أزمات متعددة: جفاف متفاقم، وبذور غير ملائمة، وسياسات زراعية مستوردة. ومع استمرار هذه العوامل، يزداد خطر تحوّل الأزمة الزراعية إلى أزمة غذائية شاملة، تهدد ملايين السوريين وتهزّ أحد أهم أعمدة الاقتصاد الوطني.