منذ سقوط نظام بشار الأسد في أواخر عام 2024، بدأت تتضح ملامح مرحلة جديدة في الخريطة السكانية لسوريا. فقد شهدت البلاد تحركات ديمغرافية واسعة، اتخذت في ظاهرها طابعًا إنسانيًا وأمنيًا، بينما تُثير في عمقها تساؤلات حول التوجّه السياسي. هذه التحركات طالت مناطق مختلفة، من الساحل السوري إلى قلب العاصمة دمشق، بما في ذلك أحياء تقليدية ذات طابع طائفي ومناطقي خاص، وسط غياب أي نقاش علني أو قانوني بشأن هذه السياسات.
الساحل السوري: إدلب تتموضع على المتوسط
في تطور غير مألوف في تاريخ البلاد الحديث، شهدت مناطق الساحل السوري، ولا سيما اللاذقية وطرطوس، انتقال أعداد كبيرة لعائلات من إدلب إلى قرى وأحياء ذات الغالبية العلوية، كثير منهم تتبع إلى عوائل فصائل عسكرية، وتم توزيع هذه العائلات، وفق شهادات محلية، على وحدات سكنية مختلفة، بعضها لشخصيات تتبع إلى رموز من النظام السابق، وبعضها يتبع لمدنيين لم ينخرطوا بأي أعمال عسكرية، بينما جرى توظيف البعض في المؤسسات الزراعية والخدمية.
ويرى باحثون أن السلطة الجديدة تسعى إلى “كسر البنية الاجتماعية الأحادية” السائدة في هذه المناطق، لكن آخرين يشككون في نوايا هذه العملية، معتبرين أنها قد لا تنفصل عن رؤية أمنية تحتمل سيناريوهات تفكك أو انقسام، ما يبرّر الحاجة إلى “تفكيك التركيز الطائفي” وتحقيق توازنات سكانية جديدة تأخذ بعين الاعتبار احتمال الانهيار في حال اندلاع أي طارئ.
إقرأ أيضاً: حلب .. عائلات السكن الشبابي ممنوعة من العودة بعد أكثر من عقد من النزوح القسري
مساكن الضباط: إنهاء الامتيازات القديمة أم إنتاج طبقة موالية جديدة؟
امتدت سياسة إعادة الإسكان إلى مساكن الضباط والمناطق العسكرية في دمشق، حيث سُجّل إسكان عشرات العائلات من إدلب وريف حلب، غالبيتهم من مقاتلين سابقين أو مدنيين وقد اعتبر بعض الموظفين الحكوميين هذا التحول بمثابة إنهاء للامتيازات الطبقية التي ميزت مرحلة النظام السابق.
لكن في المقابل، يُطرح تساؤل حول ما إذا كانت هذه الخطوة تعكس تحوّلًا نحو العدالة السكنية، أم أنها مجرد عملية إحلال اجتماعي لمصلحة ولاءات سياسية جديدة، قد تُنتج تكتلات موالية للسلطة الانتقالية على حساب إعادة بناء عقد اجتماعي جامع.
السيدة زينب وزين العابدين: مناطق النفوذ السابقة تحت التغيير
في الأحياء ذات الغالبية الشيعية مثل السيدة زينب وزين العابدين، لم تكن التغيّرات أقل وقعًا. فقد رُصدت عمليات إسكان جديدة لعائلات من إدلب في منازل كان يشغلها عوائل سابقًا من أتباع الطائفة الشيعية، ويعتقد بعض المراقبين أن هذه التحركات تعكس إعادة ترتيب أوراق النفوذ لدى السلطة الجديدة في سوريا، وذلك لتعزيز هيمنة اجتماعية جديدة، وفرض واقع عسكري جديد عبر إنشاء معسكرات جديدة.
لكن هذا التغيير يجري بصمت، دون أي توضيح رسمي أو تشاور مع السكان المحليين، ما يطرح تساؤلات عن غياب الشفافية وافتقار هذه السياسات إلى آليات قانونية تضمن حقوق جميع الأطراف.
إقرأ أيضاً: الفوعة بلدة سورية بين التهجير والتملّك المؤقت
تفجير كنيسة مار إلياس: هشاشة التعايش تحت القشرة
في ذروة هذه التحولات، شهدت العاصمة دمشق هجومًا دمويًا يوم الأحد 22 حزيران/يونيو 2025، حين استهدف تفجير انتحاري كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة، ما أسفر عن استشهاد 25 شخصًا وإصابة 63 آخرين، بحسب وزارة الداخلية السورية التي نسبت العملية لتنظيم داعش.
الكنيسة التي كانت تؤدي الصلاة تحوّلت في لحظة إلى مسرح مجزرة، ما أعاد إلى الواجهة هشاشة الوضع الأمني في العاصمة، والتوتر الكامن تحت السطح في الأحياء المختلطة، خاصة تلك التي شهدت تغيّرات سكانية غير معلنة.
ويصف شهود من سكان الحي أن الأجواء منذ أشهر أصبحت “مضطربة”، حيث يعيش السكان بين “ترقّب غير معلن وتحولات مفاجئة في البنية المجتمعية”.
هل تؤسس التغيّرات الديمغرافية لفراغ أمني؟
تفجير الدويلعة لم يكن مجرد حادثة منعزلة، بل أشار إلى هشاشة البنية المجتمعية في مناطق كانت حتى وقت قريب نموذجًا نسبيًا للتعايش. التغيرات السكانية السريعة وغير المنظّمة، لا سيما تلك التي تتم بعيدًا عن التشاركية أو النقاش المجتمعي، تخلق فراغات اجتماعية وثقافية تسمح للتنظيمات المتطرفة بإيجاد موطئ قدم في الهوامش.
ويرى محللون أن المناطق التي تخضع لإعادة تموضع سكاني دون بنية مؤسساتية مرافقة – سواء أمنية أو خدمية أو دينية – تصبح عرضة لاختراقات عقائدية وتنظيمية، لا سيما حين تُترك فجوات في الهوية والانتماء والشعور بالأمان. في هذا السياق، يبدو أن “الاندماج المفروض” قد لا يُنتج استقرارًا فعليًا بقدر ما يعمّق الإحساس بالعزلة والعدمية لدى فئات من السكان.
وقد تداول ناشطون في أيام سابقة للتفجير مقاطع مصوّرة لسيارات تجوب شوارع حي الدويلعة، وتبث عبر مكبّرات الصوت دعوات دينية علنية “لدخول الإسلام”، في مشهد لم يكن معتادًا في الحي الذي يضم طيفًا متنوعًا من السكان. هذه الحوادث، وإن لم تكن مرتبطة مباشرة بالهجوم، تشير إلى تزايد النشاط الدعوي في مناطق شهدت تغيّرًا سكانيًا مفاجئًا، ما يثير تساؤلات حول الجهة التي تملأ فراغ السلطة، ومن الذي يضبط الخطاب العام في الأحياء التي أعيد تشكيلها اجتماعيًا.
ويرى محللون أن هذا “الاندماج المفروض” – حين لا يكون نابعًا من حاجات مجتمعية حقيقية ويجري دون حوار – قد لا يُنتج استقرارًا، بل يُعمّق الإحساس بالاغتراب والعزلة لدى شرائح من السكان، ويفتح الباب أمام ردود فعل متطرفة من الأطراف كافة، سواء أكانت دينية أم أمنية.
إقرأ أيضاً: إدلب: توجه رسمي لإعادة ممتلكات الطائفة الشيعية في معرة مصرين.. والإقامة مؤجّلة
أبعاد السياسات الجديدة: بين الضرورة والتوظيف السياسي
تشير التحليلات إلى أن هذه السياسات الديمغرافية الجديدة تحمل أبعادًا متداخلة:
- أمنيًا: لتفكيك الكتل الطائفية المتماسكة وتوزيع النفوذ بشكل يمنع أي محاولات احتجاج يمكن أن تظهر.
- سياسيًا: لبناء قاعدة سكانية تدين بالولاء للسلطة الانتقالية، بغض النظر عن الخلفية الطائفية أو الجغرافية.
- اجتماعيًا: لتقليل الضغط على مناطق النزوح، لكن دون استراتيجية شاملة لإعادة الإعمار أو المصالحة.
- دوليًا: لتقديم صورة عن “اندماج اجتماعي” مزعوم أمام المانحين والمجتمع الدولي، رغم أن كثيرًا من هذه الإجراءات تفتقر للوضوح والعدالة.
التغيير من دون عقد
رغم الإشارات الرسمية إلى أن سوريا تسير نحو مرحلة جديدة من الاستقرار، إلا أن الواقع يشير إلى تغيّرات تدار من خلف الستار، دون إعلان واضح أو آلية تشاركية، وقد يؤدي استمرار هذه السياسات غير الشفافة إلى خلق توازنات جديدة هشّة، قائمة على الولاء لا على الحقوق، وعلى التوزيع القسري لا على التعايش الطوعي.
في ظل غياب دستور توافقي ومؤسسات ضامنة، يبقى السؤال الأهم: هل نحن أمام إعادة بناء وطن، أم إعادة توزيع النفوذ بأدوات أخرى؟
إقرأ أيضاً: رويترز: نساء علويات يُختطفن من شوارع سوريا