الإعلام السوري بعد سقوط النظام: تحرر شكلي أم تحديات بنيوية؟

داما بوست -خاص

بعد سقوط نظام بشار الأسد، واجه الإعلام السوري واقعًا جديدًا كليًا، حيث انهارت البنى التقليدية للإعلام الرسمي وتوقفت معظم المنصات التابعة للنظام السابق عن البث. في ظل هذه الفوضى، عادت بعض الوسائل الرسمية مثل قناة “الإخبارية السورية” ووكالة “سانا” للعمل، في محاولة لإعادة تشكيل الخطاب الإعلامي للدولة. هذا المقال يستعرض أداء الإعلام السوري في هذه المرحلة الانتقالية، محللاً العلاقة بين الإعلام الرسمي وحرية التعبير، ومساحة الحوار الإعلامي، ودور الإعلام في تشكيل الرأي العام، وأخيرًا مدى صدقية التوجهات نحو تحرير الإعلام.

الإعلام الرسمي مقابل حرية التعبير

هيمنت السلطة السورية على الإعلام لعقود، حيث مُنع أي صوت معارض، واحتُكرت وسائل الإعلام لخدمة النظام، وهو ما جعل الصحافة تفتقر للمهنية والموضوعية. لم يكن ممكنًا في عهد النظام السابق نشر أي محتوى لا يخدم الرواية الرسمية، وكانت الرقابة الأمنية حاضرة في كل مفاصل العملية التحريرية، من اختيار الضيوف إلى صياغة العناوين.

بلغ القمع ذروته خلال الثورة السورية، حيث تم توثيق أكثر من 1350 انتهاكًا ضد الصحفيين، بما في ذلك الاعتقال والإخفاء القسري والاغتيال، ما جعل العمل الإعلامي في سوريا واحدًا من أخطر المهن.

ورغم أن إسقاط النظام أتاح هامشًا أوسع لحرية التعبير، إلا أن هذه الحرية ما تزال مقيدة بخطوط حمراء، إذ تظل حرية الصحافة مرتبطة بـ”المسؤولية” كما تصفها وزارة الإعلام الانتقالية، ويُخشى أن تتحول هذه “المسؤولية” إلى غطاء للرقابة غير المعلنة. يشير عدد من الصحفيين السوريين إلى أن أجواء ما بعد الأسد شهدت تغيّرًا في اللهجة لا في المضمون؛ فبينما سُمح بنقد بعض الشخصيات القديمة، بقيت قضايا الحوكمة الجديدة والحلفاء الجدد بمنأى عن التغطية النقدية.

مساحة الحوار في الإعلام السوري:

لطالما غابت النقاشات الحرة عن الإعلام السوري الرسمي، الذي اكتفى بإعادة بث رواية النظام في الخطاب الواحد كان هو القاعدة، ما أدى إلى غياب الثقة بين الجمهور ووسائل الإعلام، وبعد سقوط النظام، أُعلن عن نية للانفتاح، وتجلّى ذلك في استضافة وجوه مؤيدة للنظام السابق في برامج حوارية على قناة “الإخبارية السورية”. غير أن هذه الخطوات أثارت موجة غضب في الأوساط الثورية، التي اعتبرت ظهور هؤلاء محاولة لتلميع رموز القمع.

في المقابل، يرى بعض الإعلاميين أن تجربة الانفتاح تلك كانت اختبارًا للرأي العام أكثر منها سياسة إعلامية واضحة. فقد أُطلقت برامج ومنصات جديدة سعت لإدماج الشباب والنساء وناشطي المجتمع المدني، لكن بقيت هذه المبادرات محدودة من حيث الانتشار والتأثير. التعددية، في معظم الحالات، كانت شكلية، إذ لم تسمح السلطة الانتقالية بظهور أصوات معارضة جوهرية لسياساتها، لذلك يواجه الإعلام تحديًا حقيقيًا: كيف يحقق التعددية دون أن يجرح ذاكرة المجتمع أو يشرعن روايات مضادة للعدالة؟ وحتى اللحظة، لا تزال المساحات الحوارية محدودة ومحكومة باعتبارات سياسية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالانتهاكات التي تُنسب لقوى محسوبة على الحكومة الجديدة.

الإعلام الرسمي وصناعة الرأي العام

لعب الإعلام الحكومي دورًا رئيسيًا في تشكيل وعي السوريين وفقًا لرؤية النظام السابق، واستخدمت وكالة “سانا”، على سبيل المثال، سرديات مضللة، وشوهت المعارضة، وروّجت لروايات سلطوية تعتمد على التخويف والتشويه. لم يكن من الغريب أن تنقل وسائل الإعلام أخبارًا عن “الإنجازات الاقتصادية” في وقت كانت فيه البلاد تنهار.

بعد سقوط النظام، تسعى المنصات الرسمية لكسب ثقة الجمهور مجددًا من خلال خطابات تصالحية، وتغطية تحاول مواكبة واقع جديد،  وفي هذا السياق، ظهرت محاولات لتقديم خطاب إعلامي يركّز على التنمية، وإبراز المشاريع الاقتصادية، وتسليط الضوء على المبادرات الشبابية. إلا أن سيطرة السلطة الانتقالية على وسائل الإعلام، بما في ذلك الصحف والقنوات الخاصة، تُظهر أن التغيير بقي في إطار توجيه الخطاب لا تحريره. لا يزال الإعلام يخدم السلطة، حتى وإن اختلفت رسائلها، وهذا ما يلمسه الجمهور الذي بات أكثر قدرة على المقارنة بين المصادر، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات المستقلة.

تحرير الإعلام: خطوات شكلية أم نية حقيقية؟

أفرزت المرحلة الانتقالية بيئة إعلامية أقل قمعًا، لكن دون تغيير جوهري في البنية، فمع غياب قانون إعلام مستقل، واستمرار تدخل السلطة في التعيينات، وتوجيه المحتوى، يصعب الحديث عن إصلاح عميق، وما زالت النقابات الإعلامية غير مستقلة، وما زالت التغطيات تُضبط وفق أولويات السياسي لا الصحفي. كما أن ضعف التكوين المهني للكوادر الإعلامية، وتعدد مراكز النفوذ داخل الدولة، يعرقلان بناء إعلام مستقل. لا تزال عقلية الرقابة الذاتية حاضرة، وقد تختلف المحظورات من سلطة إلى أخرى، لكنها لم تُلغَ.

من جهة أخرى، لا تزال بعض الوقائع تشير إلى مقاومة داخل المؤسسات الإعلامية لأي محاولة لتجاوز التوجيهات، مثل منع نشر تقارير تتعلق بضحايا الاعتقال التعسفي في الساحل، أو حالات الفساد المرتبطة بتمويل المنظمات الإنسانية. كما لم تُفعّل حتى الآن آليات لحماية الصحفيين من التهديد أو الفصل التعسفي، وهو ما يجعل كثيرًا من الإعلاميين يمارسون نوعًا من “الرقابة الوقائية”.

رغم التقدم النسبي في بعض الجوانب، ما يزال الإعلام السوري يدور في فلك السلطة. الطريق إلى إعلام حر يعبّر عن مختلف الأصوات ويؤسس لسوريا ديمقراطية يتطلب إصلاحًا قانونيًا ومؤسساتيًا حقيقيًا، وإرادة سياسية صادقة.

التحدي ليس فقط في تحسين الشكل، بل في تغيير المضمون، والانطلاق نحو صحافة تخدم المواطن، لا الحاكم. ويبقى الرهان الحقيقي معقودًا على الجيل الإعلامي الجديد الذي نشأ في زمن الثورة والانفتاح الرقمي، والذي يمكن أن يشكل أساسًا لتحول إعلامي حقيقي، إذا ما توفر له الدعم والضمانات.

 

إقرأ أيضاً: الإعلام تحت قبضة السلطة: كيف تُدار وسائل الإعلام في سوريا؟

إقرأ أيضاً: وزارة الإعلام تحدد آلية دخول الصحفيين إلى سوريا وتعلن بريدًا رسميًا لاستقبال الطلبات

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

الإعلام السوريالحكومة السورية الانتقاليةوزارة الإعلام السورية
Comments (0)
Add Comment