المحتوى المجاني vs المدفوع.. وهل من وجود لـ “سجن المعلومات”؟

داما بوست – آلاء قجمي| كان ياما كان في قديم الزمان، في زمن ليس ببعيد مجموعتان من الناس الأولى تتلقى المعلومات عن أخبار البلد عبر الإذاعات والتلفزيونات، والأخرى تستمتع بمطالعة الأخبار وقراءة المقالات من الصحف والمجلات التي تشتريها.

المجموعة الأولى كانت تستخدم الوسائل المجانية (الإذاعة والتلفزيون) إذا صح القول، أما الثانية كانت تشتري الجرائد والمجلات وبصريح العبارة كانت تشتري المعلومات، بصرف النظر عن القيمة المالية التي كانت تُدفع.

للحكاية بقية

وفي يوم من الأيام تطورت عملية الشراء اليومية لتدخل مرحلة الاشتراكات الشهرية أو السنوية بالمجلات أو الصحف العربية والعالمية التي كانت تصل إلى أبواب المنازل، حتى أن صناديق البريد المخصصة لتلك الوسائل آنذاك، مازالت موجودة حتى يومنا هذا على مداخل بعض العمارات السكنية.

وعندما بدأت الاشتراكات الرقمية لبعض المجلات، كانت الوسيلة توفر نسخاً رقمية من المجلة من خلال تنزيلها أو قراءتها عبر الإنترنت، وتسليم العدد الجديد عن طريق البريد الإلكتروني أو منصات خاصة بالمجلة.

وبعد انتشار الانترنت بشكل أوسع، حدث انقسام كبير بين الفئة التي تفضل المعلومة المجانية المتاحة عبر الشبكة، انطلاقاً من فكرة أن المعرفة خلقت لتكون متاحة ومجانية للجميع، والفئة التي تعتبر المعلومات المدفوعة التي توفرها المواقع أو المنصات تتمتع بالجودة والمصداقية، ففيها جهد واضح بعملية إنتاج وتحرير الأخبار والمعلومات في الوسائل الإعلامية أو الوكالات، ما يوفر تحليلات أعمق وتغطية أكثر شمولاً للأحداث.

وعندما تنظر إلى القصة من بعيد تستغرب الانقسام الحاصل بين المجموعتين، فعملية الحصول على المعلومات بمقابل مادي ليست بأمر جديد، فهي تعود إلى ما قبل انتشار الانترنت بهذا الشكل الواسع كما رأينا في بداية الحكاية، فلماذا يستهجن البعض اليوم فكرة الاشتراك بالمواقع أو المنصات المدفوعة للحصول على المعلومات.

فإذا تحدثنا عالمياً، كانت صحيفة “The Wall Street Journal” من أولى المواقع التي تبنت نموذج الدفع مقابل القراءة وذلك في منتصف التسعينات، حين أطلقت خدمة الاشتراكات المدفوعة عبر الإنترنت لتقديم الأخبار والتحليلات المالية.

وعلى الرغم من بعض المخاوف والتحديات التي واجهتها في البداية، إلا أن هذه الخطوة أعطت بعض الشركات الثقة لاعتماد نموذج الدفع للقراءة.

وانعكست التجربة العالمية “كالعادة” على العالم العربي، فكان موقع “العربية نت” من أوائل المواقع الإخبارية التي تقدم أخباراً ومعلومات مدفوعة وكان ذلك عام 2000، فالاشتراك المدفوع يعطي المستخدمين ميزات إضافية، كـ “تحميل الأخبار والمقالات للقراءة في وضع عدم الاتصال، والوصول إلى محتوى حصري وتقارير معمقة، وتجربة تصفح خالية من الإعلانات”.

لا للاشتراكات.. تحيا القرصنة!

هناك من يرفض فكرة الدفع مقابل المعلومة لأسباب تتعلق بالضغط المالي ربما وعدم قدرته على تحمل تكلفة الاشتراك المدفوع، وهناك من يشك بجودة المحتوى المدفوع قلقاً من أن يكون المحتوى لا يلبي توقعاته، كما أن التوافر الواسع للبديل المجاني من الممكن أن يغريهم ويغنيهم عن المحتوى المدفوع.

ويرى الصحفي شارل عبد العزيز أن سبب تمسك فئة من الجمهور بالمحتوى المجاني، هو عدم وجود قوانين فاعلة لحماية الحقوق الفكرية من السرقة في سوريا، وبالتالي يلجأ البعض إلى قرصنة المواقع والحصول على معلومات منها (مهما كان نوعها) ونشرها عبر الانترنت، وبالتالي فإن القارئ غير مضطر لدفع المال من أجل الحصول على محتوى مقرصن أصلاً.

أما السبب الثاني بحسب عبد العزيز، هو سهولة وصول القارئ إلى المعلومات، سواء من “غوغل” أو الذكاء الاصطناعي الذي انتشر مؤخراً، فالمعلومة لم تعد صعبة الوصول كالسابق، قائلاً: “لو حصل إجماع من جميع وسائل الإعلام أو المنصات على جعل المحتوى مدفوعاً، أعتقد بأن القراء سيضطرون للاشتراك”.

وأرجع الصحفي شارل السبب الثالث، إلى قلة الوعي لأهمية المعلومة المدفوعة التي تقدم محتوى عالي من الجودة، قائلاً: “على سبيل المثال عندما أحصل على معلومات نادرة من كاتب ذو مكانة علمية وفكرية كبيرة بذل من الجهد والتعب وحتى المال ليصبح على ما هو عليه ويقدم لنا علمه، من غير العدل أن أستشهد بمعلوماته وأُضمّنها في مادتي مثلاً دون أن أدفع مقابلاً، لأنني أنا كذلك سأحصل على المال من وراء تلك المعلومة التي ضمنتها في مقالي”.

وأضاف: “للأسف معظم الوسائل الإعلامية أو الجامعات لا يقدمون مستوى عالي من المهنية، يصل إلى حد الفصل من الجامعة أو العمل لأنك استثمرت بمجهود غيرك، بل على العكس فأي شيء يقدمه الشخص يكون مقبولاً بالنسبة لهم على المستوى العلمي أو المهني، وهذا أمر غير صحيح”.

أما الصحفي في وكالة “رويترز” سالم “اسم مستعار لاعتبارات مهنية”، يرى أن مسألة الدفع مقابل الحصول على المعلومات مهما كان شكلها (مقال، خبر، كتاب، بحث، صور، فيديو) يرتبط بالثقافة التي نشأ عليها القارئ، ففي أوروبا توجد قوانين صارمة تمنع الأفراد من استعمال أي شيء له حق ملكية، وهي ثقافة نشأت معهم منذ الصغر.

إغراءات الاشتراكات المدفوعة

لا يخف على أحد أن الاشتراكات المدفوعة للحصول على المعلومات أو الأخبار، تقدم مستوى عالي من حيث الجودة والدقة في التغطية الإخبارية، بالإضافة إلى توفر أهم عنصر وهو المصداقية، فالمحتوى المدفوع يساهم في الحفاظ على استقلالية المؤسسات الإعلامية، وهو محمي بحقوق ملكية تمنع نسخه من أي أحد حتى مشتركي الوسيلة، لأن ذلك يعرض الناسخ للمسائلة القانونية.

كما يساهم بتجنب تأثيرات الإعلانات أو الضغوط السياسية، فكلما ارتبط الإعلام بالإعلان أثر على المحتوى بشكل سلبي.

ويرى الصحفي الاقتصادي حازم عوض أن المحتوى المدفوع يرفع من سويته، لأنه بعيد تماماً عن المحتوى التجاري الذي يهدف لتحقيق الربح من محركات البحث، سواء عن طريق النقرات أو”seo”، وبالتالي الاهتمام بالمواضيع التي تحقق النقرات.

ويشير عوض إلى أن المحتوى المدفوع مبني على أساس توفير معلومات وأخبار حقيقية موثوقة ودقيقة، والجهة الناشرة تتعاون مع كتاب لهم وزنهم في المجال الذي يكتبون فيه، فأي خلل بتلك العوامل من الممكن أن يُفقد الوسيلة الإعلامية مشتركيها والعائد المادي الذي تحصل عليه منهم، وبالتالي فهي مطالبة بتأمين مستوى عالي من الإنتاج والجودة.

وتابع: “حتى الصحافيين الذين يعملون في تلك الوسائل يتمتعون بمستوى مهني أعلى من الصحافيين الذين يعملون في الوسائل الإعلامية التي تعتمد على الإعلانات التجارية وتميل لرغبات التجار، وتحقق عوامل الإغراء التي تدفع القارئ لعمل نقرة في الموقع”.

وجمهور النخبة هم من يهتمون بمحتوى المنصات أو الوسائل الإعلامية المدفوعة، مثل طلاب الدراسات والأطباء والمحامين والصحفيين وأصحاب الشركات.. الخ، وكل حسب حاجته.

وشاركت الصحفية رهام المولوي زميلها الرأي، فاعتبرت أن الدفع مقابل المعلومات نوع من الاستثمار في المعرفة والمصداقية، لأن القراء بالتأكيد يبحثون في المنصات المدفوعة عما هو نوعي ومختلف عن المنصات المجانية.

ورأت المولوي بأن نموذج الأخبار المدفوعة يسهم في تحسين استدامة وجودة الصحافة في العصر الرقمي، لأنه سيحفز المنصات على تحسين جودة المحتوى، لجذب المزيد من القراء وبالتالي الحصول على إيرادات تساعدها على الاستمرارية.

خلاف على الانتشار العربي!

يرى الصحفي سالم أن ثقافة الاشتراكات المدفوعة منتشرة عربياً، فهناك اليوم منصات ليست إخبارية بامتياز مثل “مجرة، شاهد أو osn” وغيرها، قائمة على فكرة المحتوى المدفوع.

واعتبر الصحفي في “رويترز” أن هناك قنوات عربية لا تستطيع أن تجعل محتواها مدفوعاً بالكامل، مثل قناة mbc لأنها جماهيرية، فالجمهور اعتاد السهولة بالحصول على الترفيه، وهو مستعد لمتابعة الكثير من الإعلانات على أن يدفع المال من أجل مشاهدة برنامج أو مسلسل دون انقطاع، لذلك لجأت لجعل جزء من محتواها مدفوعاً كـ “شاهد”.

أما الصحفية رهام فاعتبرت منصات مجرة نموذجاً عربياً ناجحاً في اعتماد نموذج الاشتراكات المدفوعة، خصوصاً أنها تقدم المحتوى العربي لمنصات عالمية مثل “هارفارد بزنس ريفيو” بجودة وموثوقية عالية.

فيما خالف الصحفي الاقتصادي حازم زملائه الرأي، معتبراً أن هذا النوع من الثقافة غير منتشر عربياً، لأن معظم القراء العرب معتادين على القراءة المجانية، ربما لأنهم لا يعرفون بأن المحتوى المجاني في أغلب الأحيان لا يحوي على المعلومات الكاملة، وهو مكرر في كل الوسائل الإعلامية الأخرى، وبالتالي يعتبر غير سليم علمياً، فيلجؤون إلى ترجمة ما يحتاجونه من معلومات متوفرة في المواقع الأجنبية.

لا يحق لغيره!

المنصات أو المواقع الإلكترونية المدفوعة تعتبر جزءاً هاماً من النظام الاقتصادي الرقمي بسبب التحول العام نحو الاعتماد على الإنترنت للوصول إلى المحتوى والخدمات، وبالتالي هناك شروط عامة يجب أن تتوفر في الوسيلة الإعلامية التي تسعى لفرض اشتراكات مالية.

يقول الصحفي الاقتصادي حازم عوض: “حتى تستطيع وسيلة معينة أن تقدم خدماتها بطريقة مدفوعة يجب أن تكون مؤسسة عريقة لها تاريخ في عالم الإعلام، واستطاعت بناء ثقة مع الجمهور عبر ما قدمته من أخبار دقيقة وموثوقة عبر السنين كـ “رويترز”، حتى يتأكد صاحب الاشتراك أن الخبر الذي سيدفع مقابل الحصول عليه، هو موثوق ودقيق وغير محرّف”.

ويتابع: “عندما قرر القراء الاشتراك في أي من تلك المواقع أو الوكالات أو المنصات، بالطبع لهم أهداف معينة، سواء بغرض التعلم وبناء مخزون فكري وإبداعي، أو الحصول على خبر موثوق ومعلومات دقيقة حول موضوع معين، أو لقراءة مقالات لصحفيين أو كتّاب يُشهد لهم بقيمتهم العلمية وغيرها من الأهداف، فعندما يشعرون بأن تلك الجهات تحقق لهم أهدافهم فهم سيجددون اشتراكهم بالمنصة أو الوسيلة بكل تأكيد”.

وبالتالي من الصعب أن تلجأ وسيلة ناشئة لتقديم خدمات مدفوعة دون أن يكون لها وزن واسم عند الجمهور، بحسب عوض.

هل المعلومات سجينة قفص الاشتراكات؟

يرى عميد كلية الإعلام السابق أ.د محمد العمر أن التشريعات الإعلامية حول العالم لا تعتبر الاشتراكات المدفوعة نوعاً من تقييد الوصول إلى المعلومات، فعندما تكون وكالة إخبارية كبيرة مسؤولة عن تزويد الوسائل الإعلامية بأخبار دقيقة وموثوقة من حول العالم عبر شبكة واسعة جداً من المراسلين، هذا يعني أنها تتحمل تكاليف مالية كبيرة، وبالتالي من حقها الطبيعي أن تتحكم بعملية تزويد المعلومات لجهات معينة بما يخدم سياستها ومصالحها المادية.

إذاً، لا يمكننا اعتبار الاشتراكات المدفوعة أنها نوع من تقييد حرية وصول المعلومات إلى المستفيدين منها، فالنموذج التجاري للاشتراكات المدفوعة يعتبر واحداً من الطرق التي تعتمد عليها وسائل الإعلام لتوفير محتوى موثوق وعالي الجودة.

فالاشتراكات تؤمن عائداً مالياً للمؤسسات الإعلامية، مما يسمح لها بالاستمرار في توفير محتوى عالي الجودة لتمويل تنفيذ الأنواع الصحفية، كما يمكن أن تضمن الاشتراكات استقلالية الجهة الإعلامية، وعدم تبعيتها لمصالح خارجية وتقليل اعتمادها على الإعلانات.

وعموماً يرتبط تقييد حرية وصول المعلومات بالقيود القانونية والتنظيمية التي قد تفرضها الحكومات أو السلطات المعنية، لا بطريقة تمويل الوسائل الإعلامية أو الاشتراكات المدفوعة.

كما أن الوصول المجاني إلى المعلومات هو أساس ديمقراطيات المعرفة والحرية الصحفية، والاشتراكات المدفوعة هو خيار مفتوح ومتاح لكل قاصد لها.

وتبقى نهاية القصة مفتوحة..

تابعونا على فيسبوك تلغرام تويتر

الاشتراكات المدفوعةالتغطية الإخباريةالصحفيونالمعلوماتالمواقع الإلكترونيةالنظام الاقتصادي الرقمي
Comments (0)
Add Comment