في مرحلة مفصلية من تاريخ سوريا، تتزايد التحديات أمام أي سلطة سياسية جديدة تسعى إلى إعادة بناء الدولة بعد عقود من الحكم الأمني والاستبداد. أحد أبرز هذه التحديات يتمثل في آلية تعيين المناصب في سوريا، التي لطالما كانت أداة للضبط والسيطرة، لا وسيلة لخدمة المواطنين وتحقيق المصلحة العامة. ومع تصاعد الحديث عن “التكنوقراط” والتمثيل الوطني في مؤسسات الحكم، يظل الواقع أكثر تعقيدًا وابتعادًا عن هذه الشعارات.
في المشهد السوري الراهن، تبرز مفارقة صارخة: وزراء بملامح تكنوقراطية يتصدرون الواجهة، بينما تمسك السلطة الفعلية بيد أجهزة أمنية متغلغلة في كل مفصل من مفاصل الدولة الجديدة. هذا النموذج المزدوج في الإدارة لا يعكس رغبة حقيقية في الإصلاح، بل محاولة لتجميل صورة مهترئة بنخبة تكنوقراطية تُستخدم كغطاء شكلي، في حين تبقى القرارات الجوهرية بيد من لا يملكون الكفاءة الإدارية أو التخصص الفني.
يقول المحلل السياسي زياد العلي إن “ما يجري في سوريا هو تسويق شكلي لفكرة الحكومة التكنوقراطية، لكن الحقيقة أن القرار النهائي لا يُصنع في مجلس الوزراء، بل في غرف الأجهزة الأمنية. نحن أمام وزراء بدون أدوات حقيقية، وأجهزة تفرض إملاءاتها حتى في أصغر التفاصيل.”
الوزير التكنوقراط، في هذا السياق، ليس سوى واجهة لا تملك هامشًا حقيقيًا من القرار، في ظل سيطرة العقلية الأمنية على كافة التفاصيل. وهكذا تتكرس حالة من الانفصام بين الشكل والمضمون: حكومة تتحدث بلغة الحداثة والإصلاح، لكنها تُدار بذهنية أمنية قديمة لا تؤمن بالمؤسسات ولا تقيم اعتبارًا للكفاءة أو الشفافية.
المشكلة تتجاوز الأفراد إلى بنية متجذرة في عقلية الحكم، فمعايير التعيين لا تزال قائمة على الولاء السياسي والانتماء الأمني، لا على الجدارة والنزاهة. يتم تجاهل الكفاءات، بل وإقصاؤها، لصالح شخصيات محسوبة على دوائر مغلقة، ما يؤدي إلى تجفيف الحياة السياسية والإدارية من الدماء الجديدة، وتحويل المؤسسات إلى هياكل جوفاء تُدار بالهاتف لا بالنظام.
يضيف العلي “نحن لا نعاني فقط من غياب الكفاءات، بل من طردها المنهجي. الكفاءات السورية، في الداخل والخارج، ليست ضمن حسابات السلطة، لأنها لا تساير منظومة الولاء. الدولة أصبحت مكانًا مغلقًا، لا يتسلل إليه إلا من يحمل ختم الرضا الأمني.”
هذه المعادلة العقيمة لا تنتج إلا مزيدًا من التدهور: الخدمات العامة تنهار، الاقتصاد يتراجع، الكفاءات تهاجر، والمواطن يفقد الثقة بكل ما يصدر عن الدولة من وعود وشعارات. حين يصبح الموقع الحكومي مكافأة للولاء لا تكليفًا لخدمة الناس، وهنا تتآكل الدولة من داخلها، وتفقد أدواتها في إدارة الأزمات وتحقيق التنمية.
من جهة أخرى، فإن بعض الخطابات التي تنادي بمحاصصة طائفية كمدخل لإعادة التوازن في التعيينات، تُعد انحرافًا خطيرًا عن المسار المطلوب. العدالة في التمثيل لا تعني بالضرورة تقاسم المناصب على أساس الانتماء الطائفي أو المناطقي، بل تعني ضمان فرص متكافئة لجميع السوريين، بناءً على الكفاءة والالتزام المهني.
وأكد العلي أن “أي حديث عن المحاصصة الطائفية ليس سوى إعادة إنتاج لآليات الاستبداد. سوريا المستقبل يجب أن تُبنى على الجدارة لا الانتماءات. لا عدالة في توزيع الفشل بين الطوائف، بل عدالة في إتاحة الفرص أمام من يستحق، مهما كان انتماؤه.”
السعي نحو محاصصة طائفية يعمّق الانقسام ويكرس الانتماءات ما دون الوطنية، في حين أن المشروع الوطني الحقيقي لا يمكن أن يُبنى إلا على قاعدة شاملة تكرّم التعدد وتعتمد معيار الجدارة معيارًا وحيدًا. فالتنوع السوري غنى، لا عبء، متى ما تم توظيفه ضمن إطار مؤسسي عادل.
إن أي هيئة حاكمة مؤقتة تسعى لنيل ثقة السوريين بعد سقوط النظام، لا بد أن تتشكل من شخصيات مدنية وعسكرية، معروفة بكفاءتها واستقلالها، وملتزمة بمبادئ الثورة: الحرية، العدالة، والكرامة. ويجب أن يعكس هذا التشكيل التنوع المجتمعي السوري الحقيقي، لا من باب الترضية أو التوازنات الشكلية، بل من باب المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار ورسم المستقبل.
ولضمان نجاح هذه المرحلة، يجب وضع آلية واضحة لاختيار شاغلي المناصب الحكومية، تقوم على أسس مهنية معلنة. ويُفضل إنشاء لجان مستقلة من خبراء وإداريين لتقييم المرشحين، بعيدًا عن تدخل الأجهزة الأمنية أو الاعتبارات السياسية الضيقة. الشفافية يجب أن تكون مبدأ حاكمًا، مع نشر السير الذاتية للمرشحين وتوضيح معايير التقييم والتعيين.
أما ما يسمى بـ”التكنوقراطية الحقيقية”، فهي ليست مجرد تسميات أو شهادات أكاديمية. إنها منظومة متكاملة تقوم على مؤسسات قوية، وبيئة قانونية تضمن المحاسبة، وثقافة إدارية تحترم الخبرة وتمنح الصلاحيات للمسؤولين لاختبار قدراتهم في إدارة الشأن العام.
ويختم العلي “التكنوقراطية لا تتحقق بلباس الوزير أو شهادته، بل بمن يمنحه القرار، ويحاسبه على أدائه. لا إصلاح بدون استقلال القرار الإداري عن الوصاية الأمنية، ولا بناء لدولة حديثة إذا بقيت العقلية الأمنية تدير شؤون الصحة والاقتصاد والتعليم.”
التحول إلى هذا النموذج يتطلب إرادة سياسية صادقة، تنهي قبضة الأجهزة الأمنية على الدولة، وتفتح الباب أمام جيل جديد من الكوادر السورية المؤهلة، القادرة على إعادة بناء مؤسسات الدولة على أساس المصلحة العامة، لا الولاء أو المحسوبية.
في المحصلة، فإن الخروج من الحلقة المفرغة التي قادت سوريا إلى الانهيار، يبدأ من إعادة النظر في كيفية اختيار القيادات والمسؤولين. دولة المستقبل يجب أن تُبنى بأيدٍ نظيفة وعقول مؤهلة، وليس بترقيع مؤقت يكرر أخطاء الماضي بشعارات جديدة. النظام الذي يستبدل المظهر بالمضمون، ويبدّل الأسماء دون تغيير الجوهر، لن يتمكن من تأسيس سوريا جديدة. بل إن النجاح الحقيقي يكمن في استعادة الثقة بمؤسسات الدولة عبر إرساء ثقافة الكفاءة، وترسيخ قيم المواطنة، والانفتاح على كل مكونات المجتمع دون استثناء أو تمييز.
إقرأ أيضاً: الحزب الإسلامي التركستاني في سوريا: من الجهاد إلى التكيّف العسكري
إقرأ أيضاً: سوريا الجديدة: الطاقة بوابة النفوذ وصراع الإرادات في زمن ما بعد الأسد