في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتتالية التي تعصف بسوريا منذ أكثر من عقد، بات العمل عن بعد ملاذًا حتميًا لكثير من الشباب السوري الباحثين عن مورد رزق وسط انسداد آفاق الوظائف التقليدية وارتفاع معدلات البطالة. لقد أتاح الفضاء الرقمي فرصًا جديدة للعمل في مجالات متنوعة مثل البرمجة، التصميم، الترجمة، والتسويق، لكنه في المقابل كشف هشاشة الواقع المهني، في ظل انعدام القوانين الحامية.
من فرصة للبقاء إلى مساحة للاستغلال
كان يُفترض أن يكون العمل عن بعد فرصة لتجاوز الحدود الجغرافية والقيود المحلية، إلا أن واقع الحال أظهر وجهًا آخر لهذه التجربة. كثير من الشباب السوريين العاملين عن بعد يواجهون ظروفًا قاسية: ساعات عمل طويلة، أجور زهيدة، وانعدام أي حماية قانونية أو ضمانات تضمن حقوقهم. وقد تحول العمل الرقمي في بعض الحالات إلى فخ للاستغلال، خاصة في ظل غياب تشريعات تنظم هذا النوع من العمل في سوريا.
بنية تحتية مترهلة وعوائق مالية
يعاني العاملون عن بعد في سوريا من تحديات بنيوية خانقة، أبرزها ضعف الإنترنت والانقطاعات المتكررة في التيار الكهربائي، الأمر الذي يحول تنفيذ المهام اليومية إلى صراع مستمر مع الزمن. هذه الصعوبات التقنية تجبرهم على تمديد ساعات العمل لتعويض الفاقد، مما يزيد من الضغوط النفسية والجسدية.
أما من الناحية المالية، فالعقوبات الاقتصادية والقيود على التحويلات المصرفية جعلت من الدفع الإلكتروني معضلة قائمة، ما يفتح الباب أمام استغلال أرباب العمل، خصوصًا الأجانب، الذين يستفيدون من غياب الرقابة القانونية لفرض أجور منخفضة وشروط عمل مجحفة.
شهادات من قلب المعاناة
فارس، محرر فيديو وكاتب محتوى، عمل لسنوات مع شركة خارجية بدوام كامل من التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساءً، لكنه كان يتقاضى فقط 100 دولار شهريًا. يقول: “عندما انتهى عقدي، لم أستلم راتب آخر شهر، وباءت محاولاتي للتواصل مع الشركة بالفشل. لا توجد وسيلة قانونية للمطالبة بحقي”.
أما آية، وهي مصممة جرافيك مستقلة في دمشق، فتروي معاناتها اليومية مع ضغوط العمل وسوء المعاملة المالية: “كنت أعمل لساعات طويلة، ومع ذلك كثيرًا ما تأخرت أجوري، وأحيانًا لم تصلني أصلًا. بعض العملاء يختفون بعد استلام المشاريع دون أي التزام، وليس هناك جهة يمكنني اللجوء إليها”.
القصص لا تتوقف عند الأجور؛ فالوضع النفسي لهؤلاء العاملين لا يقل صعوبة. سامر، مبرمج حر، يصف شعوره بالقلق والتوتر المستمر: “كل لحظة أمام الحاسوب تطرح سؤالًا جديدًا: هل سينقطع الإنترنت؟ هل سينفد شحن البطارية؟ هل سأنهي مشروعي في الوقت المناسب؟ أصبحتُ أسيرًا لقلق دائم انعكس سلبًا على حياتي الاجتماعية والمهنية”.
نحو إطار قانوني يحمي العاملين عن بعد
يشدد العاملون في القطاع الرقمي على الحاجة الملحّة لإطار قانوني يُنظّم العمل عن بعد في سوريا. وجود تشريعات واضحة يضمن حقوق العاملين، ويحدد التزامات أصحاب العمل، مع آليات لضمان دفع الأجور وتثبيت العقود، هو شرط أساسي لوقف الاستغلال وتحقيق الاستقرار المهني.
كما أن تحسين البنية التحتية الرقمية يُعد ضرورة لا تقل أهمية. الإنترنت المستقر والكهرباء المتواصلة هما حجر الأساس في أي سوق رقمي فعّال، وتطويرهما استثمار طويل الأمد في مستقبل الاقتصاد الرقمي السوري.
دور المجتمع المدني والإعلام
تلعب منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام دورًا محوريًا في تسليط الضوء على هذه القضية. من خلال حملات التوعية وبرامج التدريب المهني، يمكن تعزيز ثقافة العمل الحر بشكل آمن ومنظم. كما يمكن لهذه الجهات أن تضغط باتجاه إصدار تشريعات حامية للعاملين، وتحسين بيئة العمل الرقمية، فضلًا عن تشجيع إنشاء مجموعات دعم وتواصل بين العاملين عن بعد، لتبادل الخبرات وتوفير شبكة أمان معنوية ومهنية.
العمل عن بعد.. مستقبل يحتاج إلى حماية
في النهاية، يبقى الاستثمار في حقوق ورفاهية العاملين عن بعد استثمارًا في مستقبل سوريا الرقمي. فتمكين هؤلاء الشباب من بيئة عمل عادلة ومستقرة لا يصب في مصلحتهم الفردية فقط، بل ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني ككل، بوصفهم ركيزة أساسية في أي مشروع تنمية مستدامة.
إقرأ ايضاً: وزير الاتصالات السوري: نعمل على تسريع توفير خدمات اتصالات وإنترنت مستقرة
حساباتنا: فيسبوك تلغرام يوتيوب