يشير الموقف الأمريكي المتناقض تجاه “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) إلى تعقيدات الرؤية الأمريكية في الملف السوري. ففي الوقت الذي تؤكد فيه الإدارة الأمريكية على ضرورة توحيد الأراضي السورية ودمج “قسد” ضمن جيش وطني موحد، خصصت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) مبلغ 130 مليون دولار في موازنة عام 2026 لدعم “قسد” و”جيش سوريا الحرة” لمواصلة الحرب ضد تنظيم “داعش”. هذا التناقض بين الخطاب السياسي والتحركات الفعلية يثير تساؤلات حول طبيعة العلاقة الأمريكية مع “قسد” وما إذا كانت مؤقتة أم دائمة.
عودة “داعش” وتأثيرها على الدعم الأمريكي
حذر مسؤولون إقليميون وحلفاء غربيون من عودة نشاط تنظيم “داعش” في سوريا والعراق، مستفيدًا من الفراغ الأمني الذي أعقب سقوط نظام بشار الأسد. تشير تقارير إلى أن التنظيم بدأ في إعادة تفعيل خلاياه وتعزيز عملياته.
يرى مراقبون أن الولايات المتحدة تجد نفسها بحاجة إلى استمرار دعم “قسد” وبعض الفصائل السورية المدربة لمواجهة خطر “داعش” في شرق سوريا، خاصة في ظل الشكوك حول قدرة دمشق على تولي هذه المهمة لعدم سيطرتها على معظم مناطق نشاط التنظيم. يوضح تشارلز ليستر، رئيس “برنامج سوريا” في “معهد الشرق الأوسط”، أن “الحكومة السورية الحالية منهكة أمنيًا ولا تملك القوة البشرية الكافية لتعزيز السيطرة على كامل البلاد.”
ترى الإدارة الأمريكية أنه من السابق لأوانه التخلي عن “قسد” أو الانسحاب الكلي من سوريا، إذ قد يشكل ذلك انتكاسة في الحرب ضد “داعش”، وفقًا لتقييمات البنتاغون. يشير عامر العبدالله، الباحث في مركز الحوار السوري، إلى أن الدعم الأمريكي يشمل أيضًا “جيش سوريا الحرة” في منطقة التنف، وهو ما يوحي بأن هذا الدعم ليس سياسيًا بقدر ما هو محاولة لتفادي فراغ أمني في مواجهة “داعش”.
رسائل سياسية إلى دمشق
لا يُقرأ الدعم الأمريكي الأخير لـ”قسد” من زاوية عسكرية فقط، بل يحمل أبعادًا سياسية. يرى محللون أن هذا الدعم يمثل رسالة مبطنة إلى دمشق بأن “قسد” يجب أن تؤخذ بجدية في أي عملية مستقبلية لإعادة بناء المؤسسة العسكرية السورية.
أكد المبعوث الأمريكي إلى سوريا، توم باراك، أن “قسد حليف بالنسبة لنا، والدعم المقدم لهم هو دعم لحليف، وهذا أمر مهم جدًا بالنسبة للكونغرس الأمريكي”. وأضاف أنه “يجب توجيه هذا الدعم نحو دمجهم في جيش سوريا الجديد المستقبلي.” يرى الباحث عمار فرهود أن إظهار هذا الدعم المالي لـ”قسد” هو رسالة للحكومة السورية الجديدة بأن المكون الكردي يجب أن يكون جزءًا فاعلاً من الجيش السوري الجديد، ويعتبره أداة تفاوض غير مباشر لإقناع دمشق بأهمية إدماج “قسد”.
يشير العبدالله إلى أن هذه الرسائل الأمريكية تحمل طابع الضغط غير المباشر على دمشق، للتأكيد على أن “قسد” ما زالت قوة يُعتمد عليها على الأرض، خاصة في ظل استمرار المفاوضات المتعثرة بين الطرفين حول اتفاق آذار. ينص هذا الاتفاق على دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية، والمطار، وحقول النفط والغاز، وهو بند لم يُنفذ بعد.
وحدة العقيدة القتالية وتأثيرها
لا تقتصر الشراكة بين الولايات المتحدة و”قسد” على البُعد السياسي أو الأمني فقط، بل تمتد إلى عمق العقيدة القتالية والتناغم الميداني. هذا ما يفسر استمرارية الدعم الأمريكي لـ”قسد”. عبّر قائد القيادة الوسطى الأمريكية (CENTCOM)، الجنرال مايكل “إريك” كوريلا، عن هذا الانسجام خلال لقائه مع قادة “قسد” في آذار 2025، مشيدًا بكفاءتهم في مكافحة الإرهاب.
يرى الباحث عمار فرهود أن تمسك البنتاغون بقوات “قسد” يعود إلى تطابق العقيدة القتالية بين الطرفين نتيجة سنوات من التدريب والتسليح الأمريكي المباشر. ويعتبر البنتاغون “قسد” و”جيش سوريا الحرة” شريكين موثوقين ومؤهلين ميدانيًا، على عكس الرؤية الأقل حماسًا من جانب الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض. يضيف فرهود أن التعاون الأمريكي مع الحكومة السورية الجديدة يقتصر حاليًا على المجالين الأمني والاستخباراتي، بينما يفتقر الجيش السوري الجديد إلى عقيدة قتالية متوافقة مع المنظومة العسكرية الأمريكية، ما يجعل “قسد” الخيار الأجدر بالثقة من منظور العمليات الميدانية.
في سياق التعاون الأمني بين دمشق وواشنطن، كشفت صحيفة واشنطن بوست أن الولايات المتحدة شاركت معلومات استخباراتية حساسة مع الحكومة السورية الجديدة، التي تقودها هيئة تحرير الشام، رغم تصنيفها سابقًا كمنظمة إرهابية. وقد ساعدت هذه المعلومات في إحباط هجوم وشيك لتنظيم داعش على مزار السيدة زينب قرب دمشق.
البُعد الإسرائيلي في دعم “قسد”
على الرغم من أن الدعم الأمريكي لـ”قسد” غالبًا ما يُقدم في سياق الحرب على الإرهاب، إلا أن قراءة أعمق للمشهد تكشف عن دور إسرائيلي محتمل في التأثير على صناعة القرار الأمريكي. لطالما اعتبرت إسرائيل “قسد” أحد المكونات التي يمكن الاستثمار فيها لمواجهة أعدائها الإقليميين وتنفيذ أجنداتها الجيوسياسية.
يرى الباحث السياسي علي تمي أن إسرائيل تلعب دورًا محوريًا في دفع الولايات المتحدة نحو مواصلة دعم “قسد”، ليس فقط لحمايتها من التفكك، بل ضمن مشروع جيوسياسي أوسع. ويشير تمي إلى أن وكالة الاستخبارات الأمريكية تتبنى وجهة النظر الإسرائيلية، بينما يحاول البيت الأبيض، وخاصة الرئيس دونالد ترامب، تجنب التصادم مع تركيا والحكومة السورية الجديدة. ويتوقع تمي أن ترامب سينفذ اتفاق 10 آذار بالانسحاب من سوريا (باستثناء قاعدة التنف)، مما يعني تخلي واشنطن عن “قسد” رغم المعارضة الداخلية من قادة “الليكود” و”الموساد”.
إقرأ ايضاً: لقاء دمشق الثاني: هل فُتحت الطرق أمام “قسد” أم زُرعت بالأشواك؟
حساباتنا: فيسبوك تلغرام يوتيوب