في مشهد سياسي بدا أشبه بمحاولة ترميم ما تبقى من وحدة جغرافية تتنازعها الرؤى والمصالح، استقبلت العاصمة دمشق للمرة الثانية خلال عام 2025 وفد الإدارة الذاتية برئاسة مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، يرافقه إلهام أحمد، فوزة يوسف، ورئيس حزب سوريا المستقبل. اللقاء جاء في سياق متابعة تنفيذ اتفاق 10 آذار/مارس، الذي رعته واشنطن.
الاتفاق الذي وُصف حينها بأنه “خارطة طريق انتقالية” حاسمة، تضمّن ثمانية بنود رئيسية، كان أبرزها التأكيد على وحدة الأراضي السورية، دمج مؤسسات الإدارة الذاتية المدنية والعسكرية ضمن إدارة الدولة السورية، ووقف إطلاق النار في جميع أنحاء البلاد. لكن، ورغم اللغة الوحدوية الواضحة، فإن الشيطان كما يقال يكمن في التفاصيل.
واشنطن: دعم بلا فدرالية
الحضور الأميركي اللافت، وتحديدًا التصريحات العلنية للمبعوث الأمريكي إلى سوريا توماس باراك، تكشف عن تحول جذري في الموقف الأميركي تجاه “قسد”. ففي لهجة غير مسبوقة، أعلن باراك أن “الفدرالية لا تعمل في سوريا”، مضيفًا أن على “قسد أن تقبل بفكرة سوريا الواحدة، والطريق الوحيد أمامها هو دمشق”. هذه التصريحات لا تترك مجالًا للشك: واشنطن، التي لطالما شكّلت مظلة دعم سياسي وعسكري للإدارة الذاتية، قررت أخيرًا تعديل نهجها، لتقترب أكثر من مقاربة الدولة السورية تجاه المسألة الكردية.
بالنسبة للإدارة الذاتية، التي كانت تأمل في تثبيت صيغة من الحكم الذاتي تحت رعاية دولية، جاءت هذه التصريحات كصفعة سياسية، تعيد التموضع الأميركي في زاوية الدولة المركزية، وتنتزع من “قسد” ورقة الضغط الأهم: الدعم الخارجي.
دمشق: قبول حذر وتلويح بالعصا
في المقابل، جاء البيان السوري الرسمي، وإن بدا مرحّبًا، مشروطًا بوضوح. الدولة السورية، وفق ما جاء في التصريحات الحكومية، لا تزال متمسكة بمبدأ “سوريا واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة”، وترفض “أي شكل من أشكال الفدرلة أو المشاريع الانفصالية”.
الأهم في اللهجة الحكومية هو التلويح الصريح بـ”تعقيد المشهد” في حال تأخر التنفيذ، وهو ما فهمه البعض كتحذير مبطّن لقسد من التردد أو المماطلة. وبينما تحدّثت مصادر عن رغبة عبدي بلقاء الرئيس أحمد الشرع، أكدت أخرى أن هذا اللقاء لم يتم، وربما أرجئ رهنًا بنتائج اللقاءات الأمنية مع وزيري الداخلية والدفاع.
وهنا، تُطرح علامات استفهام حول ما إذا كانت دمشق تتعامل مع الوفد الكردي بمنطق “الفرصة الأخيرة”، خاصة مع ورود أنباء عن مشاركة وفد تركي في المشاورات، ما يعكس تقاطع مصالح إقليمي حاسم، وإمكانية استخدام الورقة الكردية كورقة تفاوض مزدوجة مع أنقرة وواشنطن في آن.
مطالب “قسد”: الحكم الذاتي والكتلة العسكرية
ما تريده “قسد” في العمق، ليس مجرد تمثيل إداري، بل صيغة حكم ذاتي ضمن الدولة السورية، تتيح لها الحفاظ على بنيتها السياسية والعسكرية ككتلة واحدة، حتى لو تم دمجها اسميًا في مؤسسات الدولة. لكن هذه المطالب، بحسب ما ورد عن المصدر الحكومي السوري وتصريحات باراك، مرفوضة بشكل قاطع.
فدمشق، التي تعتبر الجيش السوري “المؤسسة الوطنية الجامعة”، لا تقبل بوجود كتلة مسلحة مستقلة حتى داخل بنيتها الرسمية. والمطلب الكردي بضم “قسد” كفرقة قائمة بحد ذاتها داخل الجيش، لا يتماشى مع مفهوم المركزية العسكرية التي تعيد الدولة السورية بناءها ذلك بحسب البيان الحكومي لدمشق
الطريق إلى دمشق… مفروش بالأشواك
رغم ما يحمله اللقاء من مؤشرات على وجود نافذة تفاهم، إلا أن عناصر المشهد تشير إلى أن الطريق أمام الإدارة الذاتية نحو دمشق ليس مفتوحًا بالكامل. هو طريق محفوف بالأشواك، تتخلله عراقيل سياسية وأمنية، وصراع بين سقف التنازلات المقبولة في دمشق، وطموحات “قسد” في الحفاظ على مكاسبها التي راكمتها خلال سنوات الحرب.
لكن المتغيّر الأبرز الذي فرض نفسه هو: تبدل القرار الأميركي. وهو تغيّر لا يصب حصرًا في صالح دمشق، بل هو أقرب إلى إعادة هندسة المشهد السوري على أسس لا تسمح لا بالفدرلة، ولا بالتقسيم، بل بحل مركزي صارم، تُرسم ملامحه بين طاولة دمشق و”نصائح” واشنطن.
واشنطن لا تزال تُمسك بخيوط اللعبة
ورغم التصريحات الصارمة التي أطلقها المبعوث الأميركي توماس باراك، والتي بدت في ظاهرها دعوة لتخلّي واشنطن عن دعم الفدرالية ومشروع الحكم الذاتي الكردي، إلا أن الوقائع على الأرض تشير إلى أن الولايات المتحدة لا تزال تمسك بخيوط اللعبة. فـ”قسد” ليست مجرد فصيل عسكري محلي يمكن التخلي عنه بسهولة، بل شريك موثوق للولايات المتحدة في واحدة من أكثر الملفات الأمنية تعقيدًا في المنطقة: محاربة تنظيم “داعش”.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل ما كشفته وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) حين أدرجت في موازنتها لعام 2026 مبلغًا قدره 130 مليون دولار لدعم “قسد” و”جيش سوريا الحرة” تحت بند “محاربة داعش والتجهيز والتدريب”. هذا الرقم لا يعبّر فقط عن التزام مالي، بل عن استمرار الرهان الأميركي على هذه القوى بوصفها أدوات تنفيذية على الأرض في الصراع المستمر ضد التنظيمات المتطرفة، وهو ما يجعل فكرة التخلي الكامل عن “قسد” أمرًا مستبعدًا في المدى المنظور.
إلى جانب ذلك، فإن تعقيدات الملف الأمني في مناطق شمال شرق سوريا تضع “قسد” في موقع لا يمكن تجاوزه بسهولة. إذ لا تزال الأخيرة مسؤولة عن إدارة عدد من السجون التي تضم الآلاف من عناصر تنظيم داعش، بالإضافة إلى إشرافها على مخيمات تضم عائلات هؤلاء المعتقلين، في ظروف إنسانية وأمنية شديدة الحساسية. أي انسحاب أو انهيار في بنية “قسد” من شأنه أن يطلق موجة فوضى أمنية جديدة، قد تُعيد “داعش” إلى الواجهة.
كما أن الواقع العسكري يفرض معادلاته الخاصة. فـ”قسد” تمتلك، بحسب التقديرات، قوة عسكرية تتجاوز 100 ألف مقاتل منظم، ومدرب، ومسلّح، يتمتع بانتشار جغرافي واسع وقدرة على الصمود والمناورة. وبالتالي، فإن فرض خيار الحسم العسكري عليها من قبل السلطة السورية أو أي طرف آخر سيكون مغامرة باهظة الثمن، وقد يؤدي إلى حرب استنزاف طويلة تُغري أطرافًا إقليمية ودولية للتدخل وخلط الأوراق.
هذا التعقيد يجعل من المشهد الراهن أشبه برقصة توازن دقيقة: الولايات المتحدة تضغط على “قسد” للقبول بالتسوية السياسية تحت سقف الدولة السورية، لكنها في الوقت نفسه تحرص على ألا تنهار البنية الأمنية التي ساهمت في صناعتها لسنوات. أما “قسد”، فهي تعرف أن دورها لم ينتهِ، لكنها أيضًا تدرك أن التنازلات القادمة ستكون مؤلمة.
إما الدولة أو التيه
بين مطالب “قسد”، وشروط الدولة، وضغوط الولايات المتحدة، ومراقبة أنقرة، تتشكل معادلة معقدة. لكن الاتجاه بات أوضح من أي وقت مضى: لا فدرالية، لا انفصال، لا كيان مستقل.
البديل؟ انخراط كامل في مؤسسات الدولة، وفق الشروط التي تضعها دمشق بدعم أميركي، أو مواجهة عزلة سياسية وأمنية لن يكون من السهل الصمود في وجهها. المسار الانتقالي الذي بدأ باتفاق آذار، قد يكون الخطوة الأولى نحو التسوية… أو لحظة الانكفاء الأخير.
إقرأ أيضاً: لقاء مرتقب بين باراك وعبدي: بحث مستقبل اتفاق دمشق قسد
إقرأ ايضاً:باراك: الشرع لا يكره “إسرائيل”.. و”إسرائيل” منفتحة على اتفاق سلام موحد مع سوريا ولبنان