جمهورية الشيخ

تتزايد التساؤلات في سورية، حول طبيعة السلطة الحقيقية على الأرض، مع تكرار ظهور شخص يُعرف بـ”الشيخ” في مواقف مختلفة.

يقول الكاتب والصحفي السوري شعبان عبود في تقرير له نشرته صحيفة العربي الجديد إن من يعيش في سورية اليوم، أو من انقطع عنها سنوات الحرب، ثم عاد إليها يلحظ نشوء قاموس جديد غير رسمي من المصطلحات المتعلقة بالمناصب وصفات المسؤولين.
لا تحتاج في سورية اليوم أن تسأل عن اسم المسؤول أو صفة الموظف أو رتبة الضابط. يكفي أن تعرف كنيته أو لقبه الشعبي المتداول لتصل إلى مبتغاك.
“أبو فلان” هو رئيس الديوان، و”أبو فلان” يدير الذاتية، وفي خلفية المشهد، يتردّد لقب واحد بثقة: “الشيخ” وهيبته.
مجرّد “الشيخ”. من دون اسم أو وظيفة أو صفة، وكأن الاسم تفصيلٌ زائد في دولةٍ لم تعد تُعنى بالأشكال القانونية أو المؤسسية.
ليست هذه الظاهرة في تغيّر الألقاب مجرّد طرائف لغوية عابرة، بل دلالات عميقة على تحوّل بنيوي في طبيعة السلطة، بعد سقوط شكلها البعثي القديم، وصعود إدارة جديدة، تُعيد تشكيل المفردات، والعلاقات الاجتماعية والإدارية، من القاعدة حتى القمة.
في العقود السابقة، كانت الألقاب تعكس بنية السلطة المركزية ذات الطابع الحزبي- العسكري المخابراتي: “الرفيق” و”المعلم” مثلا. كانت السلطة تعرف نفسها بلغتها الخاصة، وبمؤسّساتها وأجهزتها. أما اليوم، فنحن أمام مشهد شبيه، لكن قاموسه ومفرداته مختلفة تماماً: تراجع شديد للمؤسسات، وصعود لمصطلحات تُستخدم في السياقات الدينية والعشائرية والتنظيمية السرية.
“الشيخ” هنا ليس مجرّد لقب ديني، بل عنوان للنفوذ الجديد، وشيفرة سلطة تحلّ محل الرتبة والصفة. و”أبو فلان” ليس فقط كنية محلية مألوفة، بل وسيلة متعمّدة لإخفاء الهوية، وتسييد الولاء الشخصي أو العائلي على الانتماء المهني أو المؤسّسي.
حين يصبح رئيس القسم “أبو فلان”، فإننا لا نعرف ما هي صلاحياته ولا من يراقبه أو كيف جرى تعيينه، لكننا نعرف شيئاً واحداً: هو من جماعة الشيخ “فلاني”. وهكذا تتحوّل الإدارات إلى شبكاتٍ مغلقة تتعرّف إلى نفسها من خلال الكنية لا القانون، ومن خلال القرب من السلطة الدينية أو الأمنية لا عبر الهيكل الوظيفي.
وصلت هذه اللغة الجديدة، المنبثقة من خلفية تنظيمية إسلامية، إلى الحكم بعد تحوّلات كبيرة، تكشف كيف تغيّرت مرجعية السلطة: من “البعث” والعسكر إلى الجماعة. وفي هذا التحوّل، لم تعد الوظيفة العامة منصباً خاضعاً للدولة، بل باتت موقعاً ضمن سلسلة من العلاقات والولاءات. وكأن النظام القديم يعيد إنتاج نفسه، لكن بأشخاص من بيئات اجتماعية مختلفة وقاموس خاص وجديد من الألقاب.
لكن لماذا “الشيخ” الغامض المبهم، وهل ذلك مجرد صدفة، أم هو سياسة متعمّدة لإضفاء الغموض على السلطة، وتعزيز رهبة الفرد منها؟
معروف في الدول ذات الثقافة المؤسساتية، الاسم والصفة الصريحان يتيحان المساءلة، أما اللقب فينزع الطابع الرسمي ويضعك أمام “شخص” غير محدّد المعالم، قد يكون شيخاً دينياً، أو مسؤولاً أمنياً، أو موظفاً ما له شأن ما. وهنا يتقاطع الديني مع الأمني، والاجتماعي مع السياسي، لإيجاد نظام هجيني جديد يقوم على تذويب حدود الدولة والمؤسّسة، وإعادة تشكيل المجتمع عبر مفردات القوة الناعمة والرمزية.
تغيّر الألقاب وانتشارها اليوم في سورية ليس شأناً لغوياً بريئاً. إنه تعبيرٌ عن تفكّك مفهوم الدولة والمؤسّسة، وصعود مفهوم الجماعة. وفيها لا مكان للفرد ولا للمواطنة. بل هناك شيخٌ يُطاع، و”أبو فلان” يُرجَع إليه. وفي مثل هذا النظام، لا معنى لأن تكون مواطناً، بل يجب أن تكون تابعاً. ولا معنى لأن تطالب بحقك بالقانون، بل أن تُرضي “أبو فلان”.
من يراقب الكلمات، يفهم الاتجاهات، وكلما انتشرت هذه الألقاب، تراجعت الدولة، وتقدّم الولاء، وغابت العدالة. وإذا لم يُعد الاعتبار للمؤسّسة والاسم والصفة، فسنجد أنفسنا، في نهاية الأمر، نعيش في “الدولة الفلانية” دولة بلا اسم، ولا ملامح.

 

إقرأ أيضاً: هل يحكم الشيخ سوريا؟ تقارير تكشف عن سلطة موازية تتجاوز مؤسسات الدولة

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

جمهورية الشيخسوريةشعبان عبود
Comments (0)
Add Comment