الاقتصاد السوري: تفاهمات بمليارات الدولارات.. متى تتحول إلى واقع؟

أعلن البنك الدولي عن توقعات بنمو “متواضع” للناتج المحلي الإجمالي لسوريا بنسبة 1% في عام 2025، بعد انكماش بنسبة 1.5% في عام 2024. هذه التوقعات تتناقض مع التصريحات المتفائلة لوزراء الحكومة السورية حول استثمارات جديدة بمليارات الدولارات، والتي تبدو في معظمها مجرد “مذكرات تفاهم”. يطرح هذا التباين تساؤلات حول جدوى هذه المذكرات وقدرتها على تحقيق التعافي الاقتصادي المنشود.

“مذكرات التفاهم”: نوايا وليست التزامات

منذ يناير 2024، تشهد سوريا وتيرة متسارعة في توقيع ما تسميه الحكومة “اتفاقيات استثمارية” مع شركات عالمية وإقليمية. الأرقام المعلنة لافتة، حيث تتجاوز 20 مليار دولار من الاستثمارات والمساعدات الدولية خلال ستة أشهر فقط. لكن بالتدقيق، يتضح أن الغالبية العظمى من هذه “الاتفاقيات” هي في الواقع مذكرات تفاهم، وهي وثائق تعبر عن نوايا التعاون دون أن تحمل التزامات قانونية واضحة أو جداول تنفيذ محددة. يختلف ذلك جوهريًا عن الاتفاقيات الملزمة قانونيًا التي تتضمن التزامات واضحة، مواعيد محددة للتنفيذ، وآليات متابعة ومساءلة.

مشاريع بمليارات الدولارات… على الورق

شهدت الأشهر الماضية توقيع عدد من مذكرات التفاهم البارزة:

  • ميناء طرطوس: في مايو 2025، وقعت شركة “موانئ دبي العالمية” مذكرة تفاهم بقيمة 800 مليون دولار لتطوير وإدارة وتشغيل محطة متعددة الوظائف في ميناء طرطوس.
  • ميناء اللاذقية: في المقابل، وقعت شركة الشحن الفرنسية “CMA CGM” اتفاقية امتياز لمدة 30 عامًا بقيمة 260 مليون دولار لإدارة ميناء اللاذقية، وتعتبر هذه الاتفاقية من القلائل التي تحمل طابعًا ملزمًا نسبيًا.
  • قطاع الطاقة: في 30 يونيو 2025، أعلنت الحكومة السورية عن توقيع مذكرات تفاهم مع تحالف دولي يضم شركات من الولايات المتحدة وقطر وتركيا، بقيمة إجمالية تصل إلى 7 مليارات دولار. حضر المراسم الرئيس السوري أحمد الشرع والمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا توماس باراك، مما عكس أهمية استثنائية للحدث. وصف وزير الطاقة السوري محمد البشير هذه المذكرات بأنها “أكبر مشروع من نوعه في تاريخ سوريا الحديث”، مشيرًا إلى خطط لإنشاء أربع محطات غازية ومحطة طاقة شمسية بقدرة إجمالية تبلغ 7000 ميغاواط. ومع ذلك، لم تقدم شركة “UCC Holding” القطرية، التي روج لها كأكبر مستثمر، أي التزامات قانونية ملزمة أو جداول زمنية محددة للتنفيذ.
  • مشاريع سياحية وتنموية: في 7 يوليو 2025، وقعت وزارة السياحة السورية مذكرة تفاهم مع مجموعة “إنفنتشر” بقيمة 8 مليارات دولار لإطلاق مشاريع تنموية وسياحية كبرى. هذه الوثيقة، مثل عشرات غيرها، هي مذكرة تفاهم غير ملزمة قانونيًا.
  • مدينة “بوابة دمشق” الإعلامية: أعلنت وزارة الإعلام السورية عن توقيع مذكرة تفاهم مع شركة “المها الدولية” للمنتج الكويتي محمد سامي العنزي، لإنشاء مدينة للإنتاج الإعلامي بقيمة تقدر بأكثر من 1.5 مليار دولار. وصف وزير الإعلام المشروع بأنه “أول مدينة إنتاج إعلامي وسينمائي وسياحي متكاملة في سوريا”، لكن رئيس مجلس إدارة “المها الدولية” كشف أن “المشروع يحتاج ما بين خمس إلى سبع سنوات لإنجازه بالكامل” دون تحديد موعد لبدء التنفيذ.

على الصعيد الدولي، وضع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي خطة مدتها ثلاث سنوات بقيمة 1.3 مليار دولار لإعادة بناء البنية التحتية ودعم الشركات الناشئة، وهو برنامج له آليات تمويل أوضح ولكنه مشروط بالاستقرار. كما تعهد المانحون الأوروبيون في “مؤتمر بروكسل” في مارس 2025 بتخصيص 6.5 مليار دولار لإعادة إعمار سوريا، لكن هذا التعهد مرتبط بشروط سياسية وحقوقية.

“الصخب الإعلامي” وحضور الرئاسة: لماذا؟

يثير حضور رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع شخصيًا لمراسم توقيع مذكرات التفاهم تساؤلات حول البروتوكول المناسب. فمذكرات التفاهم مجرد إعلانات نوايا، ولا تتطلب عادةً حضورًا رئاسيًا يضفي طابعًا رسميًا مبالغًا فيه. هذا التعامل يخلق توقعات مضللة لدى الرأي العام حول طبيعة هذه “الاتفاقيات” وإمكانية تنفيذها.

التجربة السورية السابقة تؤكد هذه المخاوف، فمؤتمرات الاستثمار السابقة شهدت توقيع عشرات مذكرات التفاهم التي بقيت حبرًا على ورق. الخطر في هذا النهج هو أنه يحول مؤسسة الرئاسة إلى أداة ترويجية لمشاريع قد لا ترى النور، مما يضر بمصداقية الدولة ويقلل من أهمية الأحداث التي تستحق بالفعل الاهتمام الرسمي.

لماذا لا يتم توقيع اتفاقيات ملزمة؟

يواجه النظام المالي السوري تحديات هائلة تعيق النشاط الاقتصادي وإعادة الإعمار. العقوبات الدولية وصعوبة الوصول إلى النظام المصرفي العالمي تحد من قدرة سوريا على جذب الاستثمارات الأجنبية وتنفيذ المشاريع الكبيرة. ورغم رفع بعض العقوبات مؤخرًا، لا تزال الأصول المجمدة والقيود المصرفية تشكل عوائق كبيرة.

يزيد ضعف الإطار القانوني والمؤسسي من المخاطر المرتبطة بالاستثمار في سوريا. عدم وضوح آليات تحويل مذكرات التفاهم إلى اتفاقيات ملزمة، ونقص الشفافية في عمليات التوقيع والمتابعة، يدفع المستثمرين للتردد في الالتزام بمشاريع طويلة المدى.

يبدو أن الحكومة السورية تواجه ضغوطًا كبيرة لإظهار إنجازات اقتصادية سريعة لتعزيز شرعيتها وكسب ثقة الشعب والمجتمع الدولي، مما قد يدفعها للمبالغة في أهمية مذكرات التفاهم. على الجانب الآخر، يتعامل المستثمرون الأجانب بحذر شديد مع الوضع في سوريا، ويفضلون توقيع مذكرات تفاهم غير ملزمة كخطوة أولى، مع إمكانية الانسحاب إذا لم تتحسن الظروف.

ما الحل؟

تتطلب الحاجة إلى إطار قانوني واضح وشفاف لتحويل مذكرات التفاهم إلى اتفاقيات ملزمة كأولوية قصوى. فبدون هذا الإطار، ستبقى معظم المذكرات الموقعة مجرد نوايا حسنة. كما أن التحديات الأمنية تظل عائقًا كبيرًا أمام تنفيذ أي مشاريع استثمارية، حيث تخلق التوترات المستمرة بيئة غير مناسبة للاستثمار طويل المدى.

في النهاية، تبقى مذكرات التفاهم التي توقعها الحكومة السورية مجرد خطوة أولى في رحلة طويلة نحو التعافي الاقتصادي. يتطلب النجاح في تحويل هذه المذكرات إلى استثمارات فعلية استقرارًا سياسيًا وأمنيًا، وإطارًا قانونيًا واضحًا، وشفافية في التعامل مع المستثمرين، وقبل كل شيء، إرادة سياسية حقيقية لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية اللازمة.

إقرأ ايضاً:تقرير البنك الدولي: تحديات وآفاق الاقتصاد السوري في عام 2025

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

الاقتصاد السوريالعقوبات الدوليةلرئيس السوري أحمد الشرع
Comments (0)
Add Comment