في مجمل الصورة التي تتركب منها الأحداث في الشمال تسود في الكيان الصهيوني حالة من اليأس من إمكانية الرجوع لمستوطنات الشمال أو حتى رجوع الأمور إلى سابق عهدها، ومن مجمل هذه الصورة أيضاً يظهر جلياً أن “إسرائيل” لا تريد الدخول في حرب شاملة، فحزب الله واضح في تحديه وفي مطالبه بإنهاء الحرب على غزة، وهو في غاية الوضوح الإستراتيجي في العمليات العسكرية وبنوك الأهداف.
حزب الله حشر الاحتلال في خانة استراتيجية صعبة، وبنك أهدافه لم يتغير رغم عمليات الاغتيال الجبانة ضد كوادره التي ينفذها جيش الاحتلال، بل إنه ضم أهدافاً ومواقع قيادية جديدة وصلت إلى عكا وصفد، والحزب مع كل عملية اغتيال تعبر عن ضعف جيش الاحتلال يرد باستهداف قواعد وقوات إسرائيلية موجودة على الحدود بما فيها القاعدة 146، فضلاً عن استهداف لواء “غولاني” ومقر الاستخبارات ووحدة إيغوز وغير ذلك من المواقع الصهيونية.
اغتيال القادة في حزب الله لم يحقق هدفه في ثني الحزب ودفعه لتخفيف ضرباته، فاغتيال القيادي الكبير سامي عبد الله “أبو طالب” كانت نتيجته رد قوي من الحزب بضرب كافة المواقع الإسرائيلية الحدودية وبعمق أكبر مما كان قبل الاغتيال وصولاً إلى لواء حرمون والفرقة 196 وقيادة المنطقة الشمالية.
الحزب المقاوم لم يخرج جميع أوراقه بعد، فهو يمتلك من أوراق القوة الكثير الكثير، ويمتلك بنك معلومات كبير حتى لو لم يتم استهداف بعض هذه المواقع حتى الآن، لكنها في عين عاصفة حزب الله وفي الوقت المناسب سيتم دكها، فيما لو تمادت “إسرائيل”، التي ما برحت تهدد وتتوعد بالحرب رغم أنها لا تريدها، وتعلم مدى عواقبها، وإنما على سبيل الجعجعة العسكرية بأنها قادرة على الرد.
“إسرائيل” بكل تأكيد لا تريد الدخول في حرب شاملة رغم التصعيد المتزايد من قبلها، لأسباب تتعلق بإرهاق جنودها في شوارع غزة ورفح، وإرهاق حزب الله لها وإسقاط ردعها الاستراتيجي على الجبهة الشمالية، فهي بين فكي كماشة، ناهيك عن نقص الذخيرة والعتاد والأفراد وغياب الدافع، وهرب بعض ضباطها وجنودها للخارج تملصاً من الخدمة العسكرية على جبهات القتال.
حزب الله أعلن بوضوح أن هجماته وضرباته الاستراتيجية ضد الكيان مرتبطة بما يجري في قطاع غزة بدليل أنه استهدف كافة المواقع الإسرائيلية على الحدود بعد عملية رفح، والحديث عن حرب إسرائيلية محدودة في لبنان يعني حرباً شاملة، وحزب الله أعلن ذلك لأنه لا يمكن لحرب أن يشنها الاحتلال ضد لبنان وتبقى محدودة دون أن تتوسع وتمتد نيرانها لكل المنطقة.
الحزب اللبناني لا يمكن ثنيه باغتيال قياداته وكوادره فهو مصنع للرجال والقادة، ولن تؤدي اغتيالات الكيان الجبانة لتراجع عملياته، ولن تنال من الروح المعنوية للمقاومة اللبنانية، كما تريد “إسرائيل” لأن هناك كثيراً من القادة الجاهزين لتولي المهام ومواصلة العمليات، والثابت على أرض المعركة والواضح وضوح الشمس أن حزب الله هو من يقود العمليات ويضع قواعد الاشتباك.
الجم الغفير من الإسرائيليين لا يريدون فعلاً الحرب مع حزب الله، وهنالك انقسام بين الإسرائيليين في المناطق البعيدة عن الحدود، والرأي الموضوعي لمعظم قادة المستوطنات القريبين من الحدود اللبنانية وهذا يعكس حالة الخوف من سلاح المقاومة.
حزب الله لا شك حقق إنجازاً استراتيجياً كبيراً ضد الاحتلال وأبرز مجموعة من نقاط التفوق منذ بداية الحرب على غزة، عبر تحويله المستوطنات الشمالية إلى حزام أمني عسكري مهجور من المستوطنين ويخضع لنظام قتالي، وجعل “إسرائيل” باعتراف إعلامها وساستها تعاني من ضائقة استراتيجية.
هذا الإنجاز في حد ذاته بنظر الصهاينة كارثي ويمزق صورة القوة الصهيونية، ويجعلها ورقة في يد حزب الله يفاوض عليها سياسياً، بينما يقبع الاحتلال في زاوية ضيقة من نواحي كثيرة حتى التفكير في حرب ضد الحزب اللبناني بات أمراً معقداً وغير وارد، على عكس المقاومة في لبنان فهي تملك مجالاً كبيراً للمناورة وفرض شروط القتال وتوجيه دفة المعارك.
إذاً الحرب الشاملة مع حزب الله في الشمال ليست في صالح “إسرائيل” التي لا تملك عوامل الرد بما يضمن لها إحراز أي تفوق، وهذا ما يضعها في خانة تجنب الحرب والنأي بعيداً عن تفجيرها والتركيز على إعادة بناء الصورة العسكرية التي تمزقت والردع الذي انهار أمام المقاومة في لبنان وفلسطين، فالحرب ستكون كارثيةً على “إسرائيل”، فحزب الله أقوى من ذي قبل ويُقاتل بصورة أكثر فعاليةً من معظم الجيوش النظامية في المنطقة، وهذا أمر يعترف بها حتى الاحتلال نفسه ومن يدعمون غطرسته وجرائمه في غزة ولبنان.