في السنوات الأخيرة، ازداد الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن التطبيع العربي “الإسرائيلي”، وتحديدًا بعد “اتفاقيات إبراهام” التي رعتها الولايات المتحدة وبدأت بالإمارات ثم البحرين والسودان والمغرب. يُقدَّم النموذج الإماراتي في هذا السياق باعتباره النموذج “الأنجح”، سواء من حيث العائدات الاقتصادية أو النفوذ السياسي أو التحديث الداخلي. ومع دخول الحديث عن تطبيع محتمل بين سوريا و”إسرائيل” في إطار تفاهمات إقليمية أوسع، يطرح السوريون سؤالًا مركزيًا: من المستفيد من التطبيع العربي مع “إسرائيل”؟ وهل سيكون للشعب نصيب من أي مكاسب مفترضة، أم أن المسار يشبه ما حدث في مصر والأردن، حيث بقيت المكاسب محصورة في يد الحكومات والنخب الضيقة؟
النموذج الإماراتي: تنمية أم ترويج؟
منذ توقيع اتفاقية التطبيع مع إسرائيل عام 2020، روّجت الإمارات لمكاسبها الاستراتيجية: شراكات في مجال التكنولوجيا، الأمن السيبراني، الزراعة، والسياحة. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فرغم التدفق الإعلامي حول التعاون، تُظهِر تقارير اقتصادية أن حجم التبادل التجاري الحقيقي لا يزال متواضعًا مقارنة مع ما وُعِد به. فضلًا عن ذلك، فإن الإمارات دولة ذات بنية اقتصادية قوية واستثمارات دولية ضخمة، ما يجعل أثر التطبيع فيها مختلفًا جوهريًا عن أثره المحتمل في دول تعاني من أزمات اقتصادية عميقة مثل سوريا.
مصر والأردن: أربعون عامًا من السلام البارد
من المهم العودة إلى تجربتي مصر (1979) والأردن (1994) لفهم طبيعة العلاقة بين التطبيع والشعوب. كلا البلدين وقّعا اتفاقيات سلام مع “إسرائيل”. لكن، بعد عقود، من الصعب العثور على مكاسب ملموسة للشعوب.
في مصر، لم يتجاوز التطبيع الإطار الرسمي. لا يزال الشارع المصري ينظر إلى “إسرائيل” كعدو، وتظل اتفاقية كامب ديفيد مصدر انقسام سياسي. صحيح أن مصر استفادت عسكريًا عبر استمرار المعونة الأمريكية، لكنها لم تحقق انتعاشًا اقتصاديًا مرتبطًا بهذه العلاقة. السياحة والتجارة مع “إسرائيل” بقيت محدودة، والنخب فقط هي من تعاملت مع الفوائد المباشرة.
أما الأردن، الذي يعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية، فقد حقق بعض المكاسب قصيرة الأجل، لكن تلك المكاسب لم تُترجم إلى تحسن في مستوى معيشة المواطن. على العكس، زادت الهوة بين الحكومة والشعب، وارتفعت وتيرة المعارضة الشعبية لأي علاقة مع “إسرائيل”، خاصة مع استمرار سياسات الاحتلال وانتهاك المقدسات في القدس.
ماذا عن سوريا؟
بالنظر إلى السياق السوري، فإن مسألة التطبيع تحمل أبعادًا أكثر تعقيدًا. سوريا دولة خرجت من حرب استمرت أكثر من عقد، وأمنياً لم تستقر البلاد بشكل كامل حتى الآن، واقتصادها في حالة انهيار. في مثل هذا الواقع، يُطرح التطبيع كفرصة لإنعاش اقتصادي عبر بوابة إسرائيلية أمريكية خليجية.
لكن، كما هو واضح من تجارب الدول السابقة، فإن التطبيع لا يؤدي بالضرورة إلى تحسن اقتصادي شامل، خاصة إذا بقي محصورًا في إطار رسمي أو سيادي. بل قد يتحول إلى وسيلة لتثبيت النظام السياسي نفسه دون معالجة القضايا البنيوية التي يعاني منها الاقتصاد والمجتمع.
إقرأ أيضاً: مسؤول سوري ينفي لقاءه بمسؤولين إسرائيليين ويؤكد تمسك سوريا بموقفها
الشعب السوري والقضية الفلسطينية
رغم كل ما مرّ على سوريا من أزمات، ما زال الشارع السوري – في معظمه – متمسكًا بموقفه التاريخي من القضية الفلسطينية، باعتبارها قضية عدالة وحق. وهذا التمسك لا يُفسّر فقط بالأيديولوجيا أو العاطفة، بل أيضًا بتجربة شعوب الجوار التي أظهرت أن التطبيع لم يؤد إلى تسوية حقيقية أو إنهاء الاحتلال أو احترام حقوق الفلسطينيين.
وما يزيد من تعقيد المشهد، أن الحديث عن دخول شركات أجنبية للعمل في سوريا – بعضها له ارتباطات إسرائيلية أو عبر دول مطبّعة – يثير قلقًا واسعًا بين السوريين حول مصير ثروات البلاد، وما إذا كانت ستُستخدم لإعادة الإعمار.
في الختام
ليس في الأفق ما يُشير إلى أن التطبيع – إن حصل – سيحقق معجزة اقتصادية في سوريا أو في أي بلد مماثل. الأرجح، أنه سيكون صفقة سياسية تستفيد منها السلطة في دمشق على المدى القريب، فيما يظل الشعب السوري يدفع ثمن الفساد والتهميش. أما الرهان على “النموذج الإماراتي”، فهو رهان غير واقعي في سياق مختلف تمامًا من حيث القدرات، البنى، والسياسات.
لذلك، يبقى السؤال الجوهري: هل التطبيع وسيلة لتحسين حياة الناس أم فقط ورقة في لعبة إقليمية؟ السوريون، على ما يبدو، يعرفون الجواب.
إقرأ أيضاً: رويترز: لقاءات أمنية مباشرة بين مسؤولين إسرائيليين وسوريين لمنع التصعيد على الحدود
إقرأ أيضا: محللون: طريق السلام بين سوريا وإسرائيل محفوف بالعقبات والتفاهمات لا تزال غير مضمونة