خصخصة الكهرباء تعيد تشكيل السيادة بهدوء وتسعيرها يبتعد تدريجياً عن سلطة الدولة، وعبر جانب يسعى الإعلام إغفاله فإن التحول الاقتصادي الجاري في سوريا لا يغير هوية الدولة، بل يطرح مسألة أخطر لعا علاقة بفقدان الاستراتيجيات المرتبطة بالمصادر السيادية، فالكهرباء كنموذج أولي ليست خدمة يومية فقط، بل أحد أعمدة السيادة الوطنية التي يعاد تشكيلها بهدوء، وبمستويات تسعير مرشحة للانفلات من سلطة الدولة تدريجيا.
وبحسب موقع سوريا الغد فإن التوقيع الأخير لعقد بنظام BOO (بناء – امتلاك – تشغيل) مع شركة خاصة لبناء أربع محطات كهرباء بقيمة 7 مليارات دولار، فتح الباب أمام تساؤلات جذرية عن مستقبل أسعار الكهرباء، والسياسة العامة للطاقة، وجدوى هذا النموذج في بلد مثقل بالحرب والعقوبات.
من الدعم الشامل إلى السعر التجاري: عقد ونصف من التحول
كانت الكهرباء إحدى أهم الخدمات التي حافظت الدولة على دعمها، كما أن شبكة الكهرباء كانت هدفا لكافة عمليات التخريب منذ عام 2011، الأمر الذي جعل الدعم يتآكل مع تصاعد الضغوط المالية والعسكرية، فقبل الحرب لم يكن المواطن السوري يدفع أكثر من 1.5 ليرة للكيلوواط السكني، وأقل من 2.5 ليرة للكيلوواط الصناعي، لكن مع تدهور سعر صرف الليرة، وتدمير جزء واسع من البنية التحتية، بدأت الأسعار ترتفع تدريجيا حتى بلغت في 2025 ما معدله:
الشريحة | متوسط السعر (ل.س/ك.و.س) |
سكني | 35 |
صناعي | 70 |
زراعي | 30 |
رغم أن هذه الأسعار لا تزال أقل من الكلفة الحقيقية لتوليد الكهرباء، فإنها تعكس بداية توجه نحو تحرير تدريجي للأسعار، خاصة في ظل العجز المزمن في إنتاج الطاقة الذي يدفع السوريين للاعتماد على المولدات الخاصة بأسعار تفوق 1500 ليرة لكل كيلوواط/ساعة.
العقد المثير للجدل: BOO والانفلات من قبضة الدولة
العقد الجديد بنظام BOO – الذي يعني بناء المحطات وامتلاكها وتشغيلها بشكل دائم من قبل المستثمر – يختلف جوهريا عن نماذج كانت تُطرح سابقا كـ BOT (بناء – تشغيل – نقل الملكية)، حيث تعود الأصول للدولة بعد فترة محددة.
وفي المشروع الجديد سيبني المستثمر أربع محطات بقيمة 7 مليارات دولار، مع وعد بتقليص فترة التنفيذ والاستفادة من خبرات أجنبية، دون تحميل الحكومة أعباء مالية مباشرة، لكن، وبحسب خبراء في قطاع الطاقة، فإن هذا العقد يحمل مخاطر بنيوية على الأمن الاقتصادي وفق التالي:
- الاحتكار: الشركة المالكة ستتمتع بسيطرة طويلة الأجل على التسعير، في غياب ضمانات تنظيمية واضحة.
- غياب سيادة الدولة: المحطات لن تعود ملكا عاما، مما يجعل أي تعديل أو استعادة للسيطرة مشروطا باتفاقات لاحقة ستكون مكلفة أو غير ممكنة.
- ضعف بناء القدرات: غالبا لن يُشترط نقل المعرفة التقنية أو تطوير كفاءات وطنية، مما يُبقي سوريا رهينة للخارج في قطاع استراتيجي.
نحو سيناريوهات أكثر تكلفة للمستهلك
في حال تشغيل هذه المحطات بين عامي 2026 و2027، فمن المرجح أن تبدأ الشركة المشغلة بفرض أسعار تجارية تضمن استرداد استثماراتها بالدولار، وإذا افترضنا أن سعر الصرف الرسمي في حينه سيكون بحدود 15,000 ليرة لكل دولار، وأن الكلفة الحقيقية لإنتاج الكيلوواط تتراوح بين 0.10 و0.15 دولار، فإن السعر النهائي يتراوح بين:
السنة | سكني (ل.س/ك.و.س) | صناعي (ل.س/ك.و.س) | زراعي (ل.س/ك.و.س) |
2026 | 45-55 | 85-110 | 40-60 |
2027 | 60-70 | 120-150 | 50-80 |
2028 | 70-90 | 150-200 | 60-100 |
هذه التقديرات تفترض استمرار التضخم، وربط الأسعار بالقطع الأجنبي، وغياب دعم حقيقي مباشر من الحكومة.
ما بين الإنقاذ والاستلاب: خيارات مقيّدة للدولة
الدفاع الحكومي عن نموذج BOO يتمحور حول فكرة جلب الاستثمار دون استنزاف الخزينة، لكن بالمقابل، تفقد الدولة إحدى أدواتها الاجتماعية الأهم وهي التحكم بسعر خدمة تُعد من أساسيات الحياة.
في نماذج BOO عالميا يتم فرض رقابة سعرية مشددة، وتُبنى آليات حماية للمستهلك، من خلال هيئات تنظيم مستقلة، أما في الحالة السورية، حيث غياب الشفافية، وعدم وجود برلمان وتنافس سياسي؛ فإن فرض سعر عادل يصبح احتمالا ضئيلا، ما لم تتم هيكلة سياسية وتنظيمية شاملة.
الأسوأ من ذلك، أن نموذج BOO لا ينتهي، بخلاف BOT، مما يُصعّب إعادة تأميم الأصول حتى بعد انتهاء عمرها الافتراضي، وتكمن الخطورة في أن هذا النموذج ربما يُستخدم لاحقا في قطاعات أخرى (المياه، النقل، الاتصالات)، مما يعني خصخصة تدريجية للبنى التحتية دون ضمانات اجتماعية.
البديل الأفضل الذي لم يُعتمد: BOT
وفق اقتصاديين، كان من الأفضل اعتماد صيغة BOTالتي تمنح المستثمر حق التشغيل والربح لفترة محدودة (مثلا 15 عاما)، على أن تعود الأصول إلى الدولة لاحقا، وهذا النموذج كان سيحافظ على:
- حق الدولة السيادي في الملكية.
- مرونة تعديل شروط التشغيل مستقبلاً.
- إمكانية خفض الأسعار أو إعادة تنظيم القطاع بعد انتهاء العقد.
علاوة على ذلك، يُمكن لـ BOT أن يُصمَّم بحيث يفرض شروطا لنقل التكنولوجيا وتوظيف كوادر وطنية، مما يُساهم في بناء اقتصاد إنتاجي لا ريعي.
مستقبل كهرباء سوريا: ما العمل؟
إذا استمرت الحكومة في التوسع بنموذج BOO دون إطار تشريعي وتنظيمي صارم، فإننا أمام مشهد قاتم من تحرير الأسعار دون حماية اجتماعية، وبيع صامت لأصول الدولة تحت شعار “جذب الاستثمار”، لكن لا يزال هناك وقت لإعادة النظر في العقود قبل دخولها حيز التنفيذ، أو فرض تعديلات جوهرية من خلال قوانين تنظم التسعير، وتحفظ الحد الأدنى من العدالة للمستهلك.
كما يمكن للدولة إنشاء هيئة تنظيم قطاع الكهرباء تكون مستقلة، وذات صلاحيات في فرض أسعار قصوى، ومراجعة التكاليف التشغيلية للشركات الخاصة.
سوريا بحاجة ماسة للكهرباء، لا شك، لكن الطاقة ليست أرقاما اقتصادية فقط، بل قرار سيادي بامتياز، والطريق إلى إعادة الإعمار لا يمر ببيع الأصول العامة، بل ببنائها بما يضمن العدالة والاستدامة، فهل تعود الدولة إلى مقعد القيادة، أم تكتفي بدور المراقب أمام فواتير تتصاعد وسلطة تتراجع؟