السوريون… هل ما زالوا يشبهون أنفسهم؟

داما بوست -إليانا الدروبي

تبدو صورة السوريين اليوم، في الداخل والخارج، مختلفة عن تلك التي كانت تُعرف عنهم قبل سنوات. ففي حين تمنع معظم الدول العربية والغربية دخول السوريين إلى أراضيها، وتشدّد القيود على منح تأشيرات الزيارة أو اللجوء، تتحدث بعض الحكومات الأوروبية عن “فشل اندماج اللاجئين السوريين” بسبب اختلافات ثقافية وسلوكية حادّة، بل وتبدأ بإجراءات ترحيل البعض منهم أو تقديم حوافز مالية لمغادرتهم.

مسؤولون أوروبيون صرّحوا صراحةً أن جزءًا من اللاجئين ارتكب جرائم عنف واغتصاب وقتل، ما زاد من حدة الخطاب الرافض لوجودهم هناك.

لكن السؤال الأعمق الذي يفرض نفسه: إذا كان هذا هو المشهد في الخارج… فكيف يبدو المشهد داخل سوريا اليوم؟

مشاهد يومية من العنف والانحدار المجتمعي:

في الداخل السوري، تتوالى أخبار صادمة: طفل يُختطف من مدرسته أمام الناس، معلمة تُقتل داخل منزلها، فتاة تُغتصب وتُرمى في الطريق، وجرائم قتل عائلية بسبب خلافات مالية أو أسرية.

حتى في الشارع، لم يعد الغضب يقتصر على الكلمات — امرأة تهاجم شرطي مرور بعبارات عنصرية لأنه حرّر لها مخالفة، وشرطي يعتدي بالضرب على مواطن أمام المارة.

الأخطر من ذلك أن هذه السلوكيات لم تعد استثناءً. فوسائل التواصل الاجتماعي تمتلئ بخطاب كراهية طائفي وتحريضي، لا يخفي وجهه، بل يتفاخر به.

لم تعد هذه المنشورات حكراً على حسابات مجهولة، بل تصدر أحياناً عن شخصيات عامة، إعلامية أو دينية أو ثقافية، بعضها يشغل مواقع رسمية في السلطة المؤقتة الحالية.

تُسجّل مقاطع مصوّرة تدعو للكراهية والتكفير والانتقام، وتُنشر علناً دون أي محاسبة أو مساءلة. بل إن بعض من أُدينوا بالتحريض أو شاركوا في جرائم طائفية، تم تكريمهم في مناسبات رسمية!

قوانين غائبة… وتحريض حاضر:

رغم وجود مواد قانونية واضحة في التشريع السوري، مثل المادة 307 من قانون العقوبات التي تجرّم إثارة النعرات الطائفية بالسجن من سنة إلى ثلاث سنوات، والمادة 28 من قانون مكافحة الجريمة الإلكترونية لعام 2022 التي تعاقب من ينشر مواد تمسّ الوحدة الوطنية بالسجن حتى خمس سنوات — إلا أن هذه القوانين لم تُطبّق عملياً على المحرّضين.

ما نراه اليوم هو غياب شبه تام للمحاسبة، رغم أن خطاب الكراهية بات علنياً وعلى أوسع نطاق.

عودة الفكر المتطرف إلى العلن:

منابر ودروس ومقاطع مصوّرة تستعيد أفكار ابن تيمية، وتقدّمها كمرجعية مقدسة، في وقتٍ حظرتها حتى جماعات متشددة مثل “طالبان” لخطورتها.

وفي سوريا، تُعاد إحياء هذه الأفكار علناً، لتقسّم المجتمع وتزرع الكراهية بين مكوّناته.

يُكفَّر المختلفون في عباداتهم أو لباسهم، وتُرفض أنماط حياتهم، ويُستباح وجودهم الفكري أو الديني.

هل هؤلاء يمثلون فعلاً السوريين الذين عُرفوا تاريخياً بتعدّدهم وتسامحهم وتنوّع طوائفهم ومذاهبهم؟

هل يعقل أن تُفرض أسماء مدارس أو طرق دينية لا تشبه هوية قرى ومدن بأكملها؟

وهل يُعقل أن تُغيّر المناهج الدراسية بدوافع طائفية تُنكر جزءاً من التاريخ السوري لإرضاء قوى خارجية؟

دور المؤسسات… الغائب الأكبر:

لا يمكن مواجهة هذا الانحدار بخطابات فقط، بل بموقف فعلي من مؤسسات الدولة والسلطة المؤقتة.

فحتى اليوم، لم نشهد تضامناً علنياً من وزارات التربية أو الشؤون الاجتماعية مع ضحايا الجرائم أو الاغتصاب أو الخطف.

لم نرَ شخصيات رسمية تزور عائلات الضحايا أو تطالب بمحاسبة الجناة.

بل إن بعض الأصوات داخل السلطة المؤقتة ذهبت إلى تبرير الجرائم بوصفها “نتاجاً طبيعياً للظروف الحالية” — وكأن القتل والاغتصاب أصبحا من طبيعة المجتمع!

أين التعاطف؟ وأين الوجه الإنساني للسوريين؟

الأخطر من الجرائم نفسها هو ردّ الفعل تجاهها: فقد بات التعاطف مع الضحايا يقتصر على أبناء طائفتهم فقط، بينما تصمت الطوائف الأخرى خوفاً من الاتهام أو “خيانة الانتماء”.

هذه الظاهرة تنذر بانقسام مجتمعي خطير، وتكشف كيف أُبعدت النخب الفكرية والثقافية عن قيادة الرأي العام، لصالح الأصوات الدينية المتشددة والطائفية.

إذا استمر هذا المسار، ستزداد الهوّة بين السوريين، وسنرى مزيداً من الأطفال يكبرون في معسكرات دينية يصرخون “الجهاد” بدل النشيد الوطني.

هل ما زالت هذه هي سوريا؟

هل يقبل السوريون أن يبقوا منقسمين بين معتدٍ وضحية، بين متطرف وصامت، بينما تختفي القلة القادرة على قول “كفى”؟

هل نرضى أن تتحول هوية بلدٍ عُرف بتنوّعه وتعايشه إلى مزيج من الكراهية والشك والخوف؟

ما يحتاجه السوريون اليوم ليس مزيداً من الانقسام، بل جرأة الاعتراض على التطرف، ورفض الكراهية أياً كان مصدرها.

فإنقاذ سوريا لن يكون من تطرفٍ خارجي، بل من التطرف الذي بدأنا نحمله داخلنا، وصرنا نُشهره في وجه بعضنا البعض.

أنقذوا السوريين من أولئك الذين لم يعودوا يشبهونها…

ولا يشبهوننا كما عرفنا أنفسنا يوماً.

إقرأ أيضاً: من التكبيرات إلى المجازر: كيف حولت وسائل التواصل الاجتماعي خطاب الكراهية إلى واقع دموي في سوريا

إقرأ أيضاً: اقتحام جديد في مساكن الزهريات بدمشق يثير مخاوف الأهالي من التهجير القسري

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.