تحولات اقتصادية تعيد رسم الخريطة السورية.. دمشق تتصدر المشهد على حساب حلب
تشهد سوريا منذ مطلع العام الجاري تحوّلاً لافتاً في خريطتها الاقتصادية، إذ تشير المعطيات الرسمية إلى أن العاصمة دمشق وريفها باتتا تستحوذان على الحصة الأكبر من النشاط الاستثماري وتسجيل الشركات الجديدة، في وقت تتراجع فيه مكانة حلب التاريخية كعاصمة الاقتصاد والصناعة السورية.
دمشق تتقدم المشهد الاقتصادي
تُظهر بيانات وزارة الاقتصاد والصناعة أن عدد الشركات المسجلة منذ بداية العام وحتى نهاية أيلول/سبتمبر بلغ 11172 شركة، منها 8693 سجلاً تجارياً فردياً و1044 شركة أشخاص، إلى جانب 1435 شركة أموال، منها 17 مساهمة و1418 محدودة المسؤولية. كما تم شطب 1418 سجلاً تجارياً خلال الفترة نفسها.
وتشير إحصاءات جريدة سيريا ريبورت الاقتصادية إلى أن أكثر من 80% من الشركات المحدودة المسؤولية التي تأسست خلال النصف الأول من 2025 تقع في دمشق وريفها، ما يعكس تمركز النشاط التجاري والمالي في العاصمة.
وفي تأكيد لهذا الاتجاه، كشف رئيس غرفة تجارة دمشق وريفها عبد الرحيم زيادة عن انضمام 3200 منتسب جديد إلى الغرفة خلال العام الجاري، معظمهم أسسوا شركات وأعمالاً جديدة داخل المحافظة، مؤكداً أن الغرفة تعمل على تسهيل نشاطهم وتقديم الدعم اللازم لهم.
تراجع مقلق في دور حلب الصناعي
في المقابل، تشير بيانات مستقلة إلى تراجع واضح في مساهمة حلب الاقتصادية. فحتى نهاية آذار/مارس، لم تسجل المدينة سوى 9 شركات جديدة من أصل 97 على مستوى البلاد، بنسبة لا تتجاوز 9.3%، بينما استحوذت دمشق وريفها على نحو 78% من الشركات المؤسسة حديثاً.
ويقول الباحث الاقتصادي ملهم الجزماتي إن هذه الأرقام “تكشف عن انكماش تأثير حلب في المشهد الاقتصادي الوطني”، رغم تاريخها الطويل كمركز صناعي كان يساهم بما يقارب 24% من الناتج المحلي الإجمالي السوري قبل عام 2011.
ويضيف أن المدينة “دفعت ثمناً باهظاً للحرب”، إذ دُمّرت أجزاء واسعة من بنيتها التحتية الصناعية، وتعرضت منشآتها في مدينة الشيخ نجار الصناعية لأضرار جسيمة، فيما غادرت آلاف الكفاءات الصناعية، مما أدى إلى فقدان ما يشبه “الذاكرة الصناعية” للمدينة.
الاقتصاد السوري يتجه نحو التجارة والخدمات
بحسب الجزماتي، فإن الاقتصاد السوري يتجه اليوم نحو النشاط التجاري والخدماتي، إذ تمثل هذه القطاعات نحو 80% من الشركات الجديدة، وهو ما يفسر تركزها في العاصمة ومحيطها، حيث توجد الأسواق الاستهلاكية والمؤسسات الإدارية الكبرى.
ويضيف أن هذا التحول يعزز دور دمشق كمركز اقتصادي فعلي، خاصة مع تمركز معظم مذكرات التفاهم والاستثمارات الأجنبية فيها. فخلال عام 2025 وحده، تم توقيع عشرين مذكرة تفاهم بقيمة 19 مليار دولار، ذهب معظمها إلى مشاريع في العاصمة، كما شهد المنتدى السوري–السعودي للاستثمار في يوليو الماضي توقيع 47 اتفاقية بقيمة 6.4 مليارات دولار تركزت أيضاً في دمشق وريفها.
حلب.. خروج مؤقت من المشهد؟
من جانبه، يرى الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي أن حلب “لم تخرج من المشهد الاقتصادي تماماً، لكنها تمر بمرحلة تراجع مؤقت”.
ويشير إلى أن المدينة لا تزال تملك مقومات اقتصادية قوية تؤهلها للعودة، خصوصاً مع الاهتمام التركي المتزايد بالمنطقة، إلا أن ضعف البنية التحتية، وتعقيدات القوانين الاقتصادية، وانخفاض معايير الجودة بعد الحرب، جميعها تحديات تعرقل التعافي الصناعي.
ويضيف قضيماتي أن “النشاط التجاري بطبيعته يتمركز في دمشق وريفها، بينما النشاط الصناعي يتركز في حلب”، ما يجعل المقارنة بين المحافظتين بحاجة إلى فهم لاختلاف طبيعة اقتصادهما.
اختلال تنموي يهدد التوازن الوطني
يحذر الجزماتي من أن استمرار تمركز النشاط الاقتصادي في دمشق سيؤدي إلى اختلال في التنمية وتوزيع الثروات، ويحول المدن التاريخية مثل حلب وحمص وحماة إلى أطراف اقتصادية مهمشة. ويرى أن ذلك سيؤدي إلى “زيادة الفجوة الاجتماعية، وارتفاع معدلات الهجرة الداخلية نحو العاصمة، وتضخم الضغط على خدماتها، مقابل تراجع فرص العمل في باقي المحافظات”.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن الاعتماد على التجارة والاستيراد دون تطوير الإنتاج الصناعي “سيحول دون بناء اقتصاد متين ومستدام”، ويجعل البلاد أكثر هشاشة أمام التقلبات الخارجية.
اقتصاد هشّ أمام المتغيرات العالمية
ويعتبر المحلل الاقتصادي محمد صالح الفتيح أن المشكلة لا تكمن في بروز دمشق على حساب حلب، بل في اختلال بنية الاقتصاد السوري نفسه.
ويشرح أن الاقتصاد الوطني يعاني من ضعف في القطاعين الأولي (الزراعة والاستخراج) والثانوي (الصناعة)، مقابل تضخم القطاع الثالث (الخدمات والتجارة)، ما يقلص فرص العمل ويزيد البطالة.
ويضيف الفتيح أن التحولات العالمية نحو الثورة الصناعية الرابعة، القائمة على الذكاء الاصطناعي والأتمتة، تجعل من الصعب على الصناعات السورية التقليدية مجاراة المنافسة، خاصة مع تدفق السلع منخفضة التكلفة من الصين، وهو ما يهدد الصناعات المحلية في حلب بالاختناق الكامل.
ويرى الفتيح أن المستقبل الصناعي للمدينة يبدو “قاتماً”، لأن السياسات الحكومية الحالية تسير نحو تحرير الاستيراد وتخفيض الرسوم الجمركية، الأمر الذي سيزيد الضغط على الإنتاج المحلي ويجعل مهمة النهوض الصناعي أكثر صعوبة.
خلاصة المشهد
يبدو أن سوريا تشهد إعادة تموضع اقتصادي حاد، تتحول بموجبه دمشق إلى المركز المالي والتجاري الأول، فيما تتراجع حلب عن موقعها التاريخي كمحرك صناعي للبلاد.
ورغم أن هذا التحول يمنح العاصمة زخماً جديداً، إلا أنه يحمل في طياته مخاطر تنموية واجتماعية عميقة، في ظل اقتصاد يفتقر إلى التوازن ويعتمد أكثر فأكثر على التجارة والاستيراد بدلاً من الإنتاج.
اقرأ أيضاً:تصريحات أحمد فاخوري: جدل واسع حول تاريخ حلب الأقدم