الأمومة والإنهاك: متى تصبح الاستراحة من أطفالك ضرورة نفسية؟
هل من الطبيعي أن نحتاج إلى استراحة من أطفالنا؟ إعادة شحن الأمومة في وجه الإرهاق
منذ اللحظات الأولى لولادة الطفل، تنشأ علاقة عميقة وجارفة من الارتباط العاطفي والجسدي بين الأم ورضيعها، علاقة مبنية على أقصى درجات الحنان والتفاني. ولكن وسط هذا الارتباط المقدس، تبرز تساؤلات قد تشعر بعض الأمهات تجاهها بالذنب: هل الشعور بالحاجة إلى استراحة من أطفالي طبيعي؟ وهل هذا يعني أنني مقصرة أو أقل حباً؟
الإجابة المباشرة هي:
لا، هذا الشعور لا يعني أبداً نقصاً في الحب. الإجابة الأعمق تتطلب منا إعادة النظر في مفاهيم الإرهاق، وأهمية وضع الحدود، ومعنى الحب الناضج.
إذابة الذات في الدور الأمومي
تجد العديد من الأمهات أنفسهن محاصرات في دورة لا نهائية من العطاء والرعاية: من الإرضاع، إلى التربية، والتنظيف، والاهتمام بالمتطلبات اليومية الصغيرة التي لا تتوقف. مع مرور الوقت، يمكن أن تنسى الأم أنها إنسانة لها احتياجاتها، وأوقات تعبها، وصوتها الداخلي الذي يصرخ أحياناً: “أحتاج إلى وقت خاص بي.”
لماذا يسيطر شعور الذنب؟
إن مجرد التفكير في الابتعاد أو طلب وقت خاص يتناقض مع الصورة النمطية والمثالية التي يفرضها المجتمع للأمومة. غالباً ما يُنتظر من الأم أن تكون متاحة على الدوام، صبورة بلا حدود، وأن تعمل كـ “كائن خارق” لا يعرف الإنهاك.
في مواجهة هذه التوقعات المستحيلة، تشعر الأمهات بالذنب لمجرد الرغبة في قضاء وقت بمفردهن. لكن الحقيقة المؤكدة هي أن هذا الشعور ليس دليلاً على أنك “أم سيئة”، بل دليل على أنك إنسانة تسعى جاهدة للموازنة بين تقديم الحب، والاهتمام بالآخرين، والحفاظ على سلامتها الذاتية.
متى تتحول الاستراحة من رفاهية إلى ضرورة؟
تصبح الاستراحة أمراً ضرورياً وحيوياً لصحتك النفسية وجودة علاقتك بطفلك في اللحظات التالية:
حين تلاحظين أن صبرك بدأ ينفد بسرعة غير مسبوقة.
حين تتزايد انفعالاتك اليومية وتخرج عن سيطرتك.
حين تفقدين القدرة على الاستمتاع بالأوقات العادية مع أطفالك.
حين تشعرين بالإرهاق العاطفي والنفسي والـ “فراغ”.
في هذه الأوقات، لا تكون الاستراحة مجرد خيار، بل هي خط دفاع أساسي للحفاظ على توازنك النفسي وجودة التفاعل مع طفلك.
كيف نحقق “استراحة المحبة”؟
الاستراحة هنا لا تعني الانفصال العاطفي أو التخلي عن مسؤولياتك؛ بل هي عملية “إعادة شحن” للطاقة. قد يكفي أحياناً بضع دقائق من الصمت المطلق، احتساء فنجان من القهوة بهدوء، أو نزهة سريعة خارج المنزل. وفي أحيان أخرى، قد تتطلب الاستراحة مشاركة الشريك، أو الاستعانة بجدة موثوقة، أو صديقة لفترة قصيرة، تعيد إليك هدوءك وتوازنك الداخلي.
عندما نرتاح… يصفو الحب
الأم التي تمنح نفسها وقتاً للراحة وتكون حاضرة مع ذاتها هي أكثر قدرة على تقديم الحب الصادق وغير المشروط. أطفالنا لا يحتاجون إلى أم مثالية لا تشتكي ولا تتعب، بل يحتاجون إلى أم حقيقية، تعلمهم من خلال تصرفاتها أن الحياة تتضمن أخذ وعطاء، وأن الحب الحقيقي لا يعني الذوبان الكلي في الآخر، بل الحضور الواعي والناضج.
خلاصة القول:
نعم، نحتاج جميعاً إلى استراحة من أطفالنا أحياناً. ليس لأننا لا نحبهم، بل لأننا نحبهم بقدر يسمح لنا بضرورة البحث عن أفضل نسخة من أنفسنا لنكون إلى جانبهم. هذه “المسافة الآمنة” ليست انسحاباً، بل هي مساحة نلتقط فيها الأنفاس لنعود إليهم أكثر حناناً، وأكثر صدقاً، وأكثر قرباً.