هل يفتح القانون 39 نافذة أمل في سوق الإسكان السوري؟
لم يعد حلم امتلاك منزل في سوريا مؤجلاً فحسب، بل تحوّل إلى أزمة معقّدة تتقاطع فيها أوضاع الدخل المنخفض مع ارتفاع غير مسبوق في أسعار العقارات ومواد البناء، في ظل غياب نظام تمويل عقاري فعّال. فالعقار الذي يُفترض أن يكون حقاً سكنياً بات سلعة نخبوية للمضاربة والائتمان، بينما تشير تقديرات خبراء إلى أن الموظف السوري يحتاج إلى نحو 300 عام من العمل المتواصل لجمع ثمن منزل في دمشق، من دون أن ينفق شيئاً على معيشته اليومية.
دمشق تنافس طوكيو… والعقار يتحول إلى استثمار للنخبة
تظهر مفارقات صارخة في السوق العقاري السوري، حيث تتراوح أسعار الشقق في أحياء دمشق الراقية مثل المالكي وأبو رمانة وتنظيم كفرسوسة بين 500 ألف إلى مليون دولار، في حين لا تتجاوز شقق المزة 86 أو مشروع دمر نحو 50 ألف دولار. ويرى خبراء أن هذا التفاوت يعكس تحول السوق من وظيفة السكن إلى أداة استثمارية ومضاربة مالية، في ظل غياب سياسات إسكان واضحة.
وفي حين يستطيع المواطن في برلين أو باريس الحصول على قرض عقاري طويل الأجل بفائدة منخفضة، يعجز السوري اليوم عن الاقتراض بسبب ارتفاع الفوائد وغياب برامج التمويل، ما يجعل التملك شبه مستحيل، حتى لمن يمتلك دخلاً ثابتاً.
مشاريع إسكان حكومية وسط تحديات تمويلية
وزير الأشغال العامة والإسكان، مصطفى عبد الرزاق، أعلن مؤخراً عن خطة لإنشاء 100 ألف وحدة سكنية عبر المؤسسة العامة للإسكان والتعاون السكني والتطوير العقاري، لكن هذه المشاريع تواجه تحديات حقيقية تتعلق بالتمويل والكوادر والبنى التحتية. وأشار الوزير إلى أن سوريا تضم نحو مليون منزل مدمر، فيما يقيم أكثر من 3 ملايين شخص في مساكن عشوائية تفتقر إلى الحد الأدنى من شروط السكن اللائق.
فجوة في إنتاج الإسمنت… قبل الإعمار
رغم الحديث عن مشاريع إعادة الإعمار، تواجه سوريا فجوة في إنتاج الإسمنت تصل إلى 50%، يجري سدها بالاستيراد من دول عربية مجاورة. وتشير تقديرات إلى أن المشاريع الاستثمارية والسكنية المعلنة بالتعاون مع السعودية وقطر والإمارات قد تتطلب أكثر من 200 مليون طن من الإسمنت خلال فترة تنفيذها، ما يعني أن الطلب السنوي قد يقفز إلى 20 مليون طن خلال السنوات المقبلة.
القانون 39… محاولة لبناء نظام تمويل عقاري
في ظل هذه المعطيات، يبرز القانون 39 كخطوة حكومية جديدة لتنظيم التمويل العقاري. ويقول حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر حصرية إن القانون يستند إلى التجربتين الكندية والدنماركية، ويهدف إلى إنشاء هيئة ناظمة وصندوق ضمان ومؤسسة وطنية للتمويل العقاري، مع فتح الباب أمام شركات خاصة تعمل تحت إشراف الدولة. ويرى حصرية أن نجاح القانون يعتمد على دعم مؤسسات دولية مانحة تقدم قروضاً ميسّرة لمن فقدوا منازلهم خلال الحرب.
كلفة البناء… والخدمات هي الفارق
المهندس ماهر مرهج، صاحب شركة بداية للاستثمارات العقارية، أوضح أن كلفة بناء المتر الواحد في سوريا تبلغ نحو 100 دولار على الهيكل، فيما تتراوح كلفة الإكساء بين 50 و150 دولاراً في السكن الاقتصادي، وقد تصل إلى 500 دولار في المشاريع الفاخرة. وأكد أن “الخدمات المرافقة” مثل المواقف والحدائق والمرافق الاجتماعية هي ما يرفع الأسعار النهائية، خصوصاً في المشاريع الكبرى كـ”ماروتا سيتي”، حيث تصل الكلفة الإجمالية إلى أكثر من 200 دولار للمتر.
وأشار مرهج إلى أن أرباح المستثمرين قد تتجاوز 50% من رأس المال، بينما لا تتجاوز أرباح المقاولين 15%، مؤكداً أن المشكلة ليست في تمويل المشاريع بل في غياب التمويل للمشترين، وهو ما يعطل حركة السوق.
الأرض المنظمة… التحدي الأكبر أمام السكن الشعبي
يعتبر مرهج أن ثمن الأرض المنظمة هو العقبة الأساسية أمام مشاريع السكن منخفض التكلفة، مقترحاً أن تقوم الدولة بتنظيم أراضيها وطرحها للمستثمرين بأسعار رمزية أو بنظام النسبة، شريطة تنفيذ البناء خلال فترة محددة لمنع المضاربة. كما دعا إلى تعديل قانون التطوير العقاري، الذي يشترط حالياً أن تكون مساحة المشروع أكثر من 250 دونماً، معتبراً أن هذا الشرط “تعجيزي” ويمنع صغار المستثمرين من دخول القطاع.
أزمة السكن… انعكاس مباشر للأزمة الاقتصادية
الخبير الاقتصادي إبراهيم نافع قوشجي يرى أن أزمة الإسكان في سوريا تعبّر عن اختلال اقتصادي واجتماعي عميق. إذ تتراوح الإيجارات الشهرية في دمشق بين 650 و800 دولار، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف متوسط الدخل السنوي للمواطن. ويشير إلى أن 76% من الشباب السوري يؤجلون الزواج بسبب غياب السكن المستقل، ما يهدد الاستقرار الاجتماعي.
ويقترح قوشجي حلولاً عملية تشمل إعادة تفعيل الجمعيات السكنية، وإطلاق صندوق ضمان للمقترضين، وتأسيس برامج قروض حكومية من دون فائدة، إلى جانب إدخال نظام السكن الإيجاري المنظّم كبديل واقعي للتملك.
أسعار مواد البناء تقفز 20%… وغياب التخطيط يعرقل الإعمار
من جانبه، يؤكد الخبير الاقتصادي زياد عربش أن أسعار مواد البناء ارتفعت بأكثر من 20% خلال الأشهر الأخيرة، حيث تجاوز سعر طن الإسمنت 3.5 ملايين ليرة سورية، فيما ارتفع سعر الحديد إلى مستويات مماثلة. ويرى أن هذه الزيادات، مع غياب الإقراض والتخطيط العمراني، تهدد أي محاولة جدية لإعادة الإعمار أو تحسين ظروف السكن.
ويحذر عربش من أن غياب المخططات التنظيمية يؤدي إلى توسع عمراني عشوائي يزيد من هشاشة المدن، ويمنع قيام مجتمعات حضرية آمنة ومتوازنة.
خلاصة
تبدو أزمة السكن في سوريا اليوم أكثر من مجرد خلل في العرض والطلب. إنها أزمة تشريعية وتمويلية ومؤسسية متجذّرة، تحتاج إلى مقاربة شاملة تجمع بين إصلاح البنية القانونية، وتطوير أدوات التمويل، وتفعيل الشراكات بين القطاعين العام والخاص. فالقانون 39 قد يكون خطوة أولى نحو بناء منظومة تمويل عقاري حديثة، لكن الطريق نحو “بيتٍ لكل سوري” ما زال طويلاً، وربما أطول من ثلاثة قرون من العمل.
اقرأ أيضاً:طلاب المدينة الجامعية بدمشق يرفضون تحويل السكن إلى مشروع استثماري