نساء الشمال السوري يكافحن بعمل المبيعات لإعالة أسرهن
في أزقة المخيمات الحدودية شمالي سوريا، تمضي عشرات النساء بحقائب محمّلة بمواد التنظيف ومستحضرات التجميل، يطرقن أبواب البيوت بحثاً عن مصدر رزق يعينهن على قسوة الحياة. عمل يبدو بسيطاً للوهلة الأولى، لكنه محاط بالكثير من التحديات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية.
بداية مرتبكة ورسالة صمود
تروي “أم فجر” (40 عاماً)، نازحة من خان شيخون، تجربتها قائلة: “في أول مرة خرجت للعمل، كنت أرتجف ولم أخبر أحداً من أقاربي. طرقت الأبواب وقلبي يرتجف أكثر من يدي. لكن عندما اشتريت الدواء لزوجي من نقودي، عرفت أني على الطريق الصحيح.”
بالنسبة لها ولغيرها، لم يعد هذا العمل مجرد وسيلة للعيش، بل نافذة لحفظ الكرامة والاستقلالية وسط ظروف لا ترحم.
نساء المبيعات بين الرزق والتنمر
سعاد (38 عاماً)، أرملة وأم لثلاثة أطفال، تبدأ نهارها باكراً، تُعد الفطور لأطفالها قبل أن تتركهم برعاية والدتها، وتنطلق في جولة طويلة بحقيبتها الثقيلة. ورغم محاولاتها التوفيق بين العمل والأسرة، تقول: “أطفالي اعتادوا على غيابي، أشعر أن جدّتهم أقرب إليهم مني، لكن الحاجة أقوى.”
الطريق ليس سهلاً، فالكثير من العاملات يتعرضن للتنمر والرفض. ياسمين العيسى، شابة عشرينية من بلدة حزانو، تروي أحد المواقف: “طرقت باب أحد المنازل، فتح الرجل وقال لي بازدراء: (أنا لا أستقبل متسولات)، وأغلق الباب في وجهي. شعرت بالإهانة والدمعة خانقتني.”
رجال بين القبول والرفض
مواقف المجتمع متباينة. بعض الرجال يرون في هذا العمل باب رزق شريفاً. زوج “أم فجر” مثلاً، ورغم مرضه، يردد دائماً: “الرزق من عند الله، وهذا عمل شريف… المهم أنك لا تطلبين من أحد.”
في المقابل، هناك من يرفض الفكرة رفضاً قاطعاً بحجة التقاليد أو “المنظر غير اللائق”. أبو علاء (45 عاماً) يقول: “المرأة يجب أن تبقى في بيتها، ما معنى أن تتنقل بين البيوت بحقيبة؟” بينما يعبّر “أبو محمود” (50 عاماً) عن موقف أكثر واقعية: “ما دام العمل شريفًا ويساعدها على سد حاجتها وحاجة أولادها، فلمَ لا؟ نحن في زمن صعب، والحاجة لا ترحم.”
دخل محدود ومصاريف متزايدة
غالبية النساء العاملات في هذا المجال يتقاضين أجوراً متواضعة أو عمولة، بالكاد تغطي بعض النفقات. “أم فجر” تشرح: “الشركة تعطيني 100 دولار شهرياً، وهذا لا يكفي حتى لدواء زوجي، غير مصاريف الماء والغاز وأساسيات المنزل.”
الخبيرة الاقتصادية ميرفت العطار ترى أن هذا العمل جاء نتيجة انعدام البدائل: “المبيعات لا تحتاج لرأس مال، لكنها مهنة هشة بلا قانون يحميها أو تأمين صحي. ومع ذلك، تمنح النساء استقلالية مالية نسبية وسط ظروف اقتصادية خانقة.”
أثر اجتماعي وعائلي
تأثير هذا العمل لا يتوقف عند الجانب المادي، بل يترك بصماته على الحياة الأسرية. سعاد مثلاً، تشعر بثقل غيابها عن أطفالها: “أحياناً أشعر أنني ضيفة في حياتهم. أحاول تعويضهم في عطلة الجمعة، لكن غالباً ما أشعر أني أمر مرور الكرام.”
أما آية، طالبة جامعية من أريحا، فتخوض تجربتها بصمت بعيداً عن أنظار مجتمعها: “أحتاج المال لإكمال دراستي. أحياناً أضع المنتجات في كيس عادي حتى لا يعرف أحد أنني أعمل مندوبة. الأمر صعب جداً نفسياً، لكني لا أملك رفاهية الخجل.”
ما بين الكرامة والضرورة
ورغم الإرهاق، تبقى النساء متمسكات بعملهن، ليس لأنه الخيار الأفضل، بل لأنه الملاذ الأخير. تقول سعاد عند عودتها إلى بيتها: “غداً سأحمل حقيبتي من جديد، ما في خيار تاني. لكن طالما أولادي يحتضنوني عند عودتي، بعرف أن تعبي ما راح عالفاضي.”
بهذا المعنى، تتحول حقيبة المبيعات إلى رمز مزدوج؛ رمز للحاجة التي دفعت النساء إلى طرق الأبواب، ورمز للكرامة التي يحرصن على الحفاظ عليها، مهما كانت نظرة المجتمع قاسية.
اقرأ أيضاً:الانتهاكات بحق النساء في السويداء والساحل