الديموغرافيا كسلاح: هل يقود نزوح البدو من السويداء إلى إعادة رسم الخريطة السكانية؟
داما بوست -خاص
الخلفية السكانية
تقع السويداء في جنوب سوريا عند تخوم البادية وحوران على الحدود الأردنية، يبلغ عدد سكانها 500 ألف نسمة، وتتميّز بتركيبة سكانية يغلب عليها أبناء طائفة الموحدين الدروز، ويشكّلون أكثر من 90% من عدد السكان، مع حضور تاريخي لمسيحيين وجماعات بدوية سنّية. عرفت المحافظة لعقود طويلة بتوازن اجتماعي هشّ لكنه مضبوط يقوم على تبادل المنافع: الزراعة والأنشطة الحضرية لدى الدروز، والرعي والتجارة الموسمية لدى العشائر. وهي محافظة فقيرة من حيث الموارد، غير أنّ هذا التوازن تعرّض لاختبارات متكرّرة بفعل تنافس على الموارد والنفوذ وحدود الأراضي ومسالك الرعي، على سبيل المثال، اندلع خلاف في عام 2000 إثر مقتل شاب درزي على يد بدوي في نزاع على أرض، وتدخلت السلطات آنذاك باستخدام القوة، ثم بصدمة العنف الواسع عقب هجوم لداعش على مناطق درزية راح ضحيتها ما يقارب 200 شخص من الدروز، حيث اتهم بعض أهالي السويداء جماعات بدوية في المنطقة بمساعدة داعش.
الوضع السياسي
سياسيًّا، ظلّت السويداء أقلّ انخراطًا في دوّامة الحرب مقارنةً بمحافظاتٍ أخرى، وراكمت أنماطًا محليّة من الحوكمة والدفاع الذاتي عبر فصائل مسلّحة من أبناء الطائفة، أبرزها حركة “رجال الكرامة”. وشهدت ساحة الكرامة موجاتٍ من التظاهر للمطالبة بإسقاط النظام مع اقتراب نهايته، فيما استمرّت مؤسّسات الدولة في أداء وظائفها. وبعد سقوط نظام بشار الأسد وتولّي أحمد الشرع الحكم، دخلت المحافظة مرحلةً انتقالية مضطربة اتّسعت فيها فجوات الثقة بين المركز والأطراف، وتزايدت الهواجس المتبادلة بين المكوّنات. وفي هذا السياق، طرح الشيخ الهجري جملة مطالب على الحكم الجديد، شملت تمكين إدارة شؤون المحافظة، والدعوة إلى حوار وطني جامع، ورفض “الإعلان الدستوري”، بينما واصلت ساحة الكرامة حراكها الاحتجاجي.
اجتماعيًّا، تتميّز السويداء بتركيبةٍ تقودها مرجعيّة “مشايخ العقل” الثلاثة لدى طائفة الموحّدين الدروز، وهم: مشيخة آل الهجري – وهي الأقدم والأكثر تأثيرًا تاريخيًّا منذ القرن السابع عشر، ويتركّز نفوذها في القنوات والريف الشمالي والغربي – ومشيخة آل حناوي في سهوة البلاط والريف الجنوبي، ومشيخة آل جربوع في مدينة السويداء والقرى المحيطة بها. وتضطلع مشيخة العقل بوظيفة تمثيليّة وإدارية للطائفة في شؤونها الدينية والاجتماعية والعامّة، وتُعدّ المرجعيّة العليا التي تعبّر عن المحافظة ومصالح أهلها.
العلاقة مع “إسرائيل”
تفيد تقارير متداولة بوجود صلة قديمة بين الشيخ الهجري والشيخ موفق طريف، شيخ طائفة الدروز في فلسطين، المعروف بعلاقاته مع سياسيين رفيعي المستوى في حكومة الاحتلال الإسرائيلي. وترافق ذلك مع تصريحات إسرائيلية حذّرت القيادة الجديدة في سوريا من المساس بالدروز وأكدت أنهم “تحت الحماية الإسرائيلية”. ووفق هذه القراءة، تسعى “إسرائيل” عبر خطاب “الحماية” إلى تكريس منطقة عازلة في الجنوب السوري لتأمين حدودها. ويضاف إلى هذا السياق أنّ في “الجيش الإسرائيلي” عناصر وضبّاطًا من الطائفة الدرزية، وأنّ ثمة امتدادًا دينيًا واجتماعيًا يربط الدروز في السويداء ولبنان وفلسطين المحتلة؛ ما يجعل فصل تطورات السويداء عن الاعتبارات الإسرائيلية الأمنية والسياسية أمرًا إشكاليًا.
التهجير والنزوح القسري: الأسباب والمسببات
بدأ التصعيد الأخير من واقعة محدودة الظاهر وعميقة الأثر: خلاف على طريق دمشق – السويداء بين سائق درزي وعنصر من الأمن العام عُدّ منتمياً لعشائر المنطقة. تحوّل الاحتكاك سريعاً إلى اشتباكات بين فصائل درزية ومجموعات مسلّحة عشائرية، ثم تدخّلت قوات من الأمن العام تحت عنوان “فضّ الاشتباك”، ليتّضح لاحقاً أنّ العملية فتحت ممراً أمنياً باتجاه عمق السويداء أكثر مما كانت وساطة للفصل. اعتبر الحدث فيما بعد خطأً في التقدير من قبل الحكومة: تجاهل حساسية التنوع الأهلي داخل المحافظة، وسوء قراءة انعكاسات الغطاء الإقليمي- خصوصاً لجهة القلق من توظيف خارجي إسرائيلي – ما فاقم انعدام الثقة.
على الأرض، سُجّلت انتهاكات بحق مدنيين دروز خلال عمليات المداهمة والتمشيط، خاصة مشاهد قص الشوارب لشيوخ دروز، والتي تركت أثراً كبيراً في نفوس الأوساط الدرزية لما يحمله المشهد من إهانة للطائفة بعينها، مع مشاهد الشتم والسباب الطائفي والنيل من كرامات رموز الطائفة الدرزية، حيث ردّت مجموعات محلية باعتداءات انتقامية طالت بدواً وممتلكاتهم. ما أدى إلى إعلان النفير العام من العشائر العربية لمساندة أهاليهم وأقاربهم في المحافظة، تحت الضغط الإسرائيلي والخسائر والخوف المتبادل، تبلور “تفاهم اضطراري” يقضي بإخراج آلاف من العشائر البدوية من قرى وبلدات شرق السويداء إلى مناطق إيواء مؤقتة في درعا وريف دمشق، على أن يُبحث لاحقاً في آلية للعودة. لكن هذا “المؤقت” ربما الطويل، لم يظهر خطة واضحة للرجوع، بينما خرجت المحافظة عملياً من السيطرة المباشرة للحكومة الجديدة لمصلحة ترتيبات محلية أكثر تشدداً في ضبط الحدود والدخول.
آثار النزوح على البنية السكانية في السويداء
بحسب التفاهمات الميدانية، جرى نزوحٌ شبه كامل للعشائر والبدو عن الريف الشرقي، مع بقاء حضور سنّي محدود داخل المحافظة، على أن يكون هذا الخروج مؤقتًا ريثما تهدأ الأوضاع. وقد أكّد الشيخ الهجري في بيانٍ علني ضرورة عدم الاعتداء على العشائر أو على المكوّن السنّي، غير أنّ عمليّة الإخراج وقعت بالفعل ضمن ظروف أمنيّة متوتّرة.
وتتجلّى المخاطر في مسارين متوازيين: أوّلًا، تحوّل المؤقّت إلى دائم بفعل ضعف الثقة، والتحريض على منصّات التواصل، وغياب الضمانات الأمنيّة والقانونيّة لعودة آمنة؛ وثانيًا، ترسّخ سرديّات الغالب والمغلوب بين تهجير العشائر وحرق ما يقارب 40 قرية درزية، بما يغذّي ديناميّات تعبئة قابلة للاشتعال لاحقًا. وبالحصيلة، يغدو “السلاح الديموغرافي” أداةً لإعادة توزيع النفوذ والسيطرة على الأرض عبر تعديل البنية السكانيّة بدفعٍ قسري.
التحديات الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات النازحة
يدفع البدو النازحون الكلفةَ الأعلى أولًا: خسارة المساكن والقطعان، تعطّل سبل العيش، الاعتماد على إغاثة متقطّعة، والإقامة في مرافق عامة لا تصلح سكنًا دائمًا. ويزيد الأمرَ الضغطٌ النفسي الناجم عن تدهور في خدمات الصحة والتعليم، وتسرّب الأطفال إلى سوق العمل وفراغ اجتماعي متزايد.
في المقابل، تتحمّل السويداء أعباءً اقتصاديةً وأمنيةً ملموسة: حاجات متزايدة لتمويل إعادة الإعمار، ارتفاع كلفة السلع بفعل اضطراب خطوط الإمداد، انكماش في النشاطين الزراعي والتجاري، وتكاليف مستمرة للحواجز والإجراءات الاحترازية المحلية.
اجتماعيًا، تتّسع الفجوة بين الجوارين السابقين: لدى طرف نزوح وتهجير قسري، ولدى الطرف الآخر رواياتٌ عن المداهمات والاعتقالات والإهانات وحرق المنازل والضحايا المدنيين. كلّ ذلك يجري في غياب مساحة للاعتراف المتبادل والمصارحة وآليات فاعلة للعدالة المنصفة.
الآفاق المستقبلية: هل تفضي التحولات إلى صراعات أكبر؟
على المدى القريب يبدو الوضع مستمر على ما هو عليه: نزوح بلا أفق زمني واضح، وحكم ذاتي يحظى بشعبية محلية في السويداء كما عبّر الشيخ الهجري، في إحدى كلماته عن هذا المناخ بقوله: “الكوادر والكفاءات جاهزة لإدارة شؤون المنطقة بما يضمن الأمن والاستقرار ويحقق العدالة والتنمية، وقد عبّر الشعب بإرادته الحرة عن مطالبه بكيانٍ مستقلٍّ يضمن له العيش بكرامة تحت مظلة القانون الدولي ومعايير الدول المتقدمة”. وفي خطابٍ موازٍ، تواصلت بياناتُ شيوخ العشائر مُعلِنةً نيتَها “تحرير السويداء من عصابات الهجري”، بحسب تعبيرهم. وكلما طال هذا التعليق ارتفع خطر الانزلاق إلى جولات عنف موسمية أو هبّات انتقامية متبادلة، ولا سيما إذا استُخدمت قضيّة العودة أو التعويض كورقة ضغطٍ سياسية. وسيناريو التصعيد ليس قدرًا محتومًا، لكنه يظلّ مرجَّحًا مع استمرار تراكم عناصرٍ مثل عسكرة خطاب الهوية والشيطنة المتبادلة في المنصّات الإعلامية، إضافةً إلى توظيفٍ إقليمي للفراغ الأمني وتدهورٍ معيشي يدفع الشباب إلى خياراتٍ قصوى.
فهم المخاطر الديموغرافية شرطٌ للسلام الأهلي
تكشف تجربة السويداء أنّ التبدّل الديموغرافي القسري يتحوّل سريعًا إلى عامل سياسي مُوجّه يعيد توزيع النفوذ داخليًا وإقليميًا، كما برز في اتفاق عمّان ودخول دول ضامنة. والتعامل معه كملف إنساني فقط غير كافٍ؛ فهو قضية استراتيجية تمسّ وحدة الدولة وسلمها الأهلي. والحلّ يتطلّب مقاربات ضمن مجموعة مسارات: أمنٌ يحمي المدنيين، وعدالةٌ تُسائل الأفراد لا الجماعات، وتنميةٌ تعيد بناء ما تهدم. ضمن هذا الإطار، يمكن التوفيق بين بقاء المسيحيين واستمرار ثقل الدروز وحقّ البدو في عودة آمنة وكريمة. وعند إبرام عقدٍ اجتماعي يضمن الكرامة والمواطنة المتساوية، يتراجع “السلاح الديموغرافي” إلى حجمه الطبيعي: تنوّعٌ متماسك تصونه القوانين، لا خرائط تُرسم بالقوة.
إقرأ أيضاً: لجنة السويداء: نرفض خارطة الطريق ونطالب بحق تقرير المصير
إقرأ أيضاً: خارطة الطريق في السويداء: بين الاستقرار والتحديات