سوريا بعد سقوط النظام: سلاح منفلت واقتصاد حرب
دخلت سوريا مرحلة جديدة بعد سقوط نظام الأسد، تميزت بانتشار غير مسبوق للسلاح وتحولِه إلى ركيزة أساسية في اقتصاد الحرب. هذا المشهد، الذي يجمع بين منطق الطمع وهاجس المظلومية، يكشف عن صورة معقدة تجعل من الصعب الفصل بين الدوافع الاقتصادية والأمنية وراء انتشار السلاح واستخدامه.
الطمع: من النهب إلى التجارة
خلال الليالي الثلاث السابقة لسقوط النظام، اقتحم مدنيون وعناصر عسكريون القطع العسكرية والمخازن التابعة لقوات الأسد، ليستولوا على أسلحة وذخائر سرعان ما تحولت إلى سلعة مطلوبة خارج إطار السلطة الجديدة.
تنوعت الفئات التي انخرطت في هذه العملية:
-
عناصر كانوا محسوبين على المعارضة حتى عام 2018 ثم التحقوا ببرنامج “المصالحة الوطنية” وتابعوا مع الفيلق الثامن أو عادوا إلى حياتهم المدنية.
-
جماعات محلية مسلحة فرضت أتاوات على السكان في الأرياف والقرى البعيدة بحجة الحماية.
-
مقاتلون سابقون استغلوا خبرتهم وآلياتهم لنقل السلاح والبدء بعملية احتكار وبيع.
مع انهيار مؤسسات الدولة وفتح الحدود أمام شبكات التهريب، أصبح السلاح عملة متداولة ومصدراً للنفوذ السياسي والاجتماعي والاقتصادي. لم يعد مجرد وسيلة قتالية، بل تحول إلى استثمار مربح ضمن اقتصاد موازٍ منفصل عن مؤسسات الدولة الرسمية، ما جعل ضبطه واحتكاره مهمة معقدة أمام الإدارة الجديدة.
المظلومية: ذاكرة القمع والخوف
على الجانب الآخر، غذّت الذاكرة المثقلة بالقمع والانقسامات الطائفية والعرقية شعوراً عميقاً بانعدام الأمان. هذا دفع جماعات محلية للتسلح لا فقط بدافع الحماية الفردية، بل أيضاً كآلية لفرض توازن رعب يضمن البقاء في مواجهة الخصوم المحتملين. هنا، تصبح تجارة السلاح مشروعة في نظر حامليها، إذ تُقدَّم كخط دفاع أخير ضد عودة الاستبداد أو هجمات متوقعة. بهذا الشكل، يكتسب الطمع الاقتصادي غطاءً أخلاقياً واجتماعياً، ما يعقّد مهمة الدولة في احتكار الموارد الأمنية.
مسارات السلاح بعد الأسد
توزعت الأسلحة المنهوبة من مخازن النظام على أربعة مسارات رئيسية:
-
استيلاء المدنيين والفصائل المحلية على مخازن عسكرية ومراكز أمنية.
-
بيع ضباط وجنود لمخزونات الوحدات إلى السوق السوداء.
-
تدمير أو تبديد جزء من المستودعات بفعل ضربات إسرائيل والتحالف الدولي.
-
تسرب كميات ثابتة إلى شبكات التهريب الإقليمية نحو الأردن ولبنان والعراق.
اليوم، يجري تداول السلاح عبر أسواق فعلية في الشمال والجنوب، أو عبر مجموعات مشفرة على الإنترنت، حيث تعرض الشحنات وتباع بالوساطة.
أسعار متباينة وسوق متكاملة
تقديرات السوق السوداء تشير إلى فروقات واسعة في الأسعار:
-
بندقية كلاشينكوف: بين 100 و500 دولار.
-
صاروخ غراد (20 كم): نحو 1700 دولار، ويصل إلى 8000 دولار للمدى الأطول (40 كم).
-
مسدس 9 ملم: بين 400 و500 دولار في ريف دمشق.
-
مسدس براونينغ عيار 9 ملم: نحو 3000 دولار.
-
مسدس عيار 14 ملم: يبدأ من 1000 دولار في مناطق مثل سعسع وقطنا والكسوة.
هذه الأسعار تعكس كيف تحولت تجارة السلاح إلى سوق متكاملة تتحكم فيها عوامل العرض والطلب، والانفلات الأمني، ومستوى الصراع.
من “صناعة الدولة” إلى “تجزئة السلطة”
يقدّم المشهد السوري نموذجاً مغايراً لنظرية عالم الاجتماع تشارلز تيلي حول “صناعة الحرب وصناعة الدولة”. فبينما أدت الحروب الأوروبية إلى احتكار العنف وتأسيس الدولة المركزية، فإن انهيار السلطة في سوريا قاد إلى العكس: تفكيك الاحتكار وصعود ميليشيات وزعماء محليين يمارسون أدوار العصابات، يبيعون الحماية مقابل موارد، دون نية لبناء مؤسسات دائمة.
في المقابل، يوضح ماكس فيبر أن “الحق المشروع في استخدام القوة” يظل حكراً على الدولة في الأنظمة الديمقراطية، حيث يخضع الجيش والشرطة لضوابط دستورية ورقابية. أما في سوريا، فقد انهار هذا الاحتكار وتحول العنف إلى سلعة مفتوحة في السوق السوداء.
فوضى معززة لا منتهية
من خلال هذه الدينامية، برز اقتصاد السلاح كـ”شريان حياة” لآلاف السوريين، لكنه في الوقت ذاته قوّض أي إمكانية لعودة احتكار الدولة للعنف. فقد بات استمرار الفوضى شرطاً لبقاء أرباح الميليشيات والتجار والوسطاء، فيما أضحى إنهاء الانفلات أقل جاذبية من استمراره.
بذلك، تقدم التجربة السورية نموذجاً لاقتصاد حرب لا يعزز الدولة، بل يفتتها، ليحل مكانها سوق سوداء للسلاح تمثل السلطة الفعلية وتكرّس “سيادة مجرّمة”، تجعل من العنف تجارة ومن الأمن سلعة.
اقرأ أيضاً:روسيا تعيد تموضعها في سوريا: عودة عسكرية واقتصادية تشمل الجنوب والشمال الشرقي