استراتيجية الشرع: استخدام الدبلوماسية لترسيخ السلطة في سوريا الجديدة
في أعقاب التغيير الجذري الذي شهدته سوريا، وجدت الحكومة الانتقالية الجديدة نفسها أمام تحدٍ مزدوج: ترسيخ سلطتها داخلياً وسط واقع جيوسياسي معقد.
في هذا السياق، يبدو أن القيادة الجديدة برئاسة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع تستخدم فيها الدبلوماسية والأمن كأداتين لتعزيز موقفها، وخدمة هدفها الأساسي المتمثل في تأمين وجودها. فمن خلال الانخراط في مفاوضات مع إسرائيل، تسعى دمشق إلى إدارة التهديد العسكري المباشر وكسب الوقت لترتيب شؤونها الداخلية لكن يأثمان قد يراها البعض باهضة وغير منطقية.
وفي الوقت نفسه، تستخدم الزيارة المزعمة إلى نيويورك كرافعة دبلوماسية لإعادة تموضع سوريا، وجذب الدعم اللازم لعملية إعادة الإعمار.
ومع ذلك، يطرح هذا النهج تساؤلات نقدية حول الثمن المحتمل لهذه “البراغماتية”، وما إذا كانت التنازلات الأمنية والسياسية التي تعتزم الحكومة الجديدة تقديمها ستمكنها فعلاً من السيادة الكاملة، أم أنها مجرد خطوة لتثبيت حكمها على أنقاض الدولة القديمة، وهو ما ينطوي على مخاطر كبيرة قد تُقوّض السيادة الوطنية على المدى الطويل وتُعمّق الانقسامات الداخلية بدلاً من حلها.
اقرأ أيضاً:إيكونوميست: الشرع فشل في تحقيق توقعات السوريين”
التحول الجيوسياسي وتحدي الشرعية المزدوج
شهدت سوريا تحولاً مفاجئاً وغير مسبوق عقب سقوط النظام السابق، إذ وجدت الحكومة الانتقالية نفسها أمام واقع معقد فلا هي احتفظت بهيكلية الدولة السابقة ولا عمدت على تأسيس بنية جديدة، وذلك في ظل تركة من الصراع المسلح الذي خلف دماراً هائلاً (وفق تقديرات تشير إلى تدمير 70% من القدرات العسكرية السابقة)، وانهياراً اقتصادياً، ووجود قوى محلية وإقليمية ودولية ذات مصالح متضاربة.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه الحكومة الانتقالية يتمثل في كيفية الموازنة بين حاجتها للبقاء على حكمها وإنهاء العزلة وجذب الدعم، وبين التحديات الداخلية المتمثلة في توحيد البلاد وإعادة بناء مؤسساتها العسكرية والأمنية.
تتبنى القيادة الجديدة بوصف “براغماتي” يحاول تحقيق الاستقرار الأمني من خلال إدارة علاقات معقدة مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، واستخدام الدبلوماسية كأداة رئيسية لتثبيت وجودها في الحكم.
زيارة نيويورك: العودة إلى المسرح الدولي أم شراء الشرعية؟
تُعدّ مشاركة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع في أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة حدثاً سياسياً بارزاً، إذ ستكون أول مشاركة لرئيس سوري منذ عام 1967.
جاءت هذه الخطوة المرتقبة بعد حصوله على تأشيرة دخول من الولايات المتحدة واستثناء أممي من العقوبات المفروضة عليه. وقد أشارت مصادر دبلوماسية إلى وجود حديث عن لقاء محتمل بين الشرع والرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
يمكن تحليل هذه الزيارة على أنها مسعى حاسم من قبل الحكومة الجديدة لترسيخ شرعيتها على الصعيد الدولي، بعد أن اكتسبتها محلياً عبر إسقاط النظام السابق.
فالنظام الجديد، الذي تشكل عقب سقوط نظام الأسد، يسعى الآن للحصول على اعتراف دولي كامل يمكن أن يفتح الباب أمام رفع كامل للعقوبات وجذب الاستثمارات الضرورية لإعادة الإعمار.
اقرأ أيضاً:بين التصوف والوهابية: الجدل السني يتصاعد في سوريا ما بعد الأسد
من وجهة نظر الحكومة الجديدة، تخدم هذه الزيارة هدفاً مباشراً يتمثل في إظهار أنها الطرف الموثوق به والمؤهل لإدارة البلاد وإعادة الاستقرار إليها، وبالتالي، فهي تسعى لشرعنة وجودها في الحكم أمام العالم.
ومع ذلك، فإن هذا التحول في الموقف الأمريكي لا يعني اعترافاً كاملاً بالحكومة الجديدة. إذ كشفت التقارير أن تصنيف التأشيرة الممنوحة للشرع هو من الفئة “G-3″، وهي فئة تمنح للممثلين الحكوميين غير المعترف بحكوماتهم من قبل الولايات المتحدة، على عكس الفئة “G-1” المخصصة للدبلوماسيين المعترف بهم. هذا الإجراء، الذي وصفته دمشق بأنه “إجرائي محض”، هو في حقيقته أداة ضغط دبلوماسي أمريكية.
فبينما اعتبرت الخارجية الأمريكية أن تشكيل حكومة سورية جديدة “أمر إيجابي”، أكدت أن أي تعديل كامل في السياسة الأمريكية تجاهها، بما في ذلك رفع العقوبات، سيكون مشروطاً بإحراز تقدم على الأولويات الأمريكية، مثل إبعاد المقاتلين الأجانب ومنع النفوذ الإيراني.
إن هذا الوضع يكشف عن حقيقة استراتيجية دقيقة: الضعف العسكري للحكومة الجديدة والضرورة الاقتصادية الملحة دفعاها إلى الانخراط في مسار دبلوماسي مع الغرب. في المقابل، وجدت الولايات المتحدة في هذا الضعف فرصة لفرض شروطها وتوجيه المسار السوري بما يخدم مصالحها. لذا، فإن منح التأشيرة والاستثناء الجزئي لا يمثل نهاية العزلة، بل هو بداية لمرحلة جديدة من “الاحتواء الدبلوماسي” الذي يجعل دمشق تعتمد على “حسن النية” الأمريكية والغربية، وقد يفرض عليها تنازلات في المستقبل. الزيارة تخدم هدف الحكومة في المقام الأول: إظهار أنها الطرف الموثوق به والمقبول دولياً، مما يعزز شرعيتها في الداخل ويسكت أي أصوات معارضة ترى أن الحل يكمن في مسار مختلف.
التعامل الانتقائي مع خارطة الطريق الدولية (القرار 2254)
في الوقت الذي يسعى فيه الرئيس الشرع للحصول على الشرعية الدولية من خلال زيارته للأمم المتحدة، فإنه يدعو في الوقت نفسه إلى “إعادة النظر” أو “تحديث” بعض بنود قرار مجلس الأمن رقم 2254. هذا القرار هو خارطة الطريق الدولية للانتقال السياسي في سوريا، والتي تتمسك بها أطراف المعارضة التي ترى أن الحل يكمن في تطبيق القرار بالكامل لضمان دستور جديد وانتخابات حرة ونزيهة.
إن هذا الموقف الانتقائي من القرار 2254 يثير تساؤلات جدية حول مدى التزام القيادة الجديدة بأسس الانتقال الديمقراطي الشامل. إن الحكومة الجديدة، التي نشأت من مسار عسكري وليس سياسياً، تتخوف من بنود القرار التي قد تفرض انتخابات حقيقية أو نظاماً سياسياً لا يمكنها السيطرة عليه. لذا، تحاول الحكومة “تحديث” القرار بما يتناسب مع رؤيتها التي تركز على “توحيد البلاد” تحت سلطتها، وليس “مشاركة” الجميع في الحكم.
هذا الموقف يرسل رسالة واضحة للمجتمع الدولي بأن الحكومة تفضل ترسيخ حكمها على حساب أي انتقال ديمقراطي حقيقي. وهو ما قد يبرر استمرار عزلتها الدولية الجزئية ويسقط عنها مبرر الشمولية الذي تروج له.
إن استمرار هذا التناقض قد يؤدي إلى بقاء حالة الانقسام الداخلي، حيث ترى المعارضة أن الحكومة الجديدة هي مجرد “نظام جديد” يحل محل النظام القديم، وليس “دولة جديدة” تنهض على أسس ديمقراطية. وهذا الأمر يعرّض البلاد للاستقرار الهش ويجعلها عرضة للتدخلات الخارجية، حيث تتوقف مسارات الدعم والاعتراف على مدى التزام دمشق بمطالب القوى الكبرى.
المفاوضات مع إسرائيل: إدارة الأزمة أم التنازل عن السيادة؟
في ظل الترقب لزيارة الشرع إلى نيويورك، تتردد أنباء عن لقاء سوري إسرائيلي في باريس برعاية أمريكية، بهدف “خفض التصعيد” في الجنوب السوري وإعادة تفعيل اتفاق فك الاشتباك لعام 1974.
ويُذكر أن هذا اللقاء هو الثالث من نوعه، وقد سبقته لقاءات تم عقدها بشكل علني في وقت سابق.
وعلى الرغم من النفي الرسمي من دمشق حول اللقاء المرتقب، إلا أن مصادر إسرائيلية تؤكد استمرار المفاوضات.
هذه المفاوضات تمنح إسرائيل هامشا من الأمان في الجنوب، ما يمكّنها من التركيز على جبهات أخرى. ورغم أن الهدف المعلن هو تحقيق الاستقرار ووقف التدخل الإسرائيلي، فإن الهدف الحقيقي هو كسب الوقت لترتيب الأوراق الداخلية.
إن القبول بالتفاوض من موقع ضعف، دون اشتراط الانسحاب الكامل من الجولان، يعتبر تنازلاً استراتيجيا. هذا التحول في الموقف يعكس أولوية الحكومة الجديدة المتمثلة في البقاء السياسي والأمني، حتى على حساب استعادة الأراضي المحتلة. وهذا المسار قد يرسخ واقعًا جديدًا تتعايش فيه سوريا مع الاحتلال بدلاً من مقاومته.
إعادة هيكلة الجيش والأمن: توحيد السلطة أم توحيد السلاح؟
تعهدت الحكومة الجديدة، ممثلة برئيس جهاز الاستخبارات العامة أنس خطاب ووزارة الداخلية ، بإعادة هيكلة شاملة للأجهزة الأمنية بهدف دمج جميع الفصائل المسلحة في الجيش السوري الجديد.
لكن الواقع الميداني يكشف عن فجوة كبيرة بين الخطاب والقدرة الفعلية. فبعد أحداث عنف كبيرة في اللاذقية والسويداء، أظهرت الحكومة المؤقتة ضعفها وعجزها عن حفظ الأمن.
إن خطة الدمج المعلنة تتبع نهجاً سطحياً، حيث تقوم المجموعات المسلحة المحلية “بتغيير أعلامها” والإعلان عن ولائها للحكومة الجديدة دون التخلي عن هياكلها القيادية المستقلة.
هذا النهج، بدلاً من أن يكون إعادة هيكلة مهنية كاملة للجيش ، هو في حقيقته عملية “تثبيت سياسي” تهدف إلى حصر السلاح في يد كيان واحد (الجيش الجديد)، لكنه لا يحل المشكلة الجذرية المتمثلة في الولاءات الفرعية التي يمكن أن تتفجر في أي لحظة.
إن استمرار هذه الحالة يجعل الحكومة الجديدة “نمراً من ورق”، حيث تبدو قوية في الخطاب لكنها ضعيفة في الواقع. هذا الضعف قد يدفع قوى خارجية للتدخل لتبرير حماية مصالحها، مما يجعل البلاد مسرحاً لتصفية الحسابات الإقليمية.
الخاتمة
ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية، تنطوي على مخاطر كبيرة. فمن خلال الانخراط في مفاوضات غير متكافئة مع إسرائيل، والتعامل الانتقائي مع خارطة الطريق الأممية للسلام، قد تكون الحكومة الجديدة تقدم تنازلات استراتيجية جوهرية، قد لا تتضح تداعياتها الكاملة إلا في المستقبل.
إن خطر التنازلات يكمن في أن المفاوضات مع إسرائيل، دون إطار وطني جامع، قد تُقوّض السيادة الوطنية بشكل دائم. كما أن التعامل الانتقائي مع قرار 2254، قد يؤدي إلى استمرار الانقسام الداخلي، ويجعل الحكومة الجديدة مجرد “نظام” آخر يسيطر على “أنقاض الدولة”. هذه “البراغماتية” قد تجعل سوريا عرضة لابتزاز القوى الدولية الأخرى التي تتحكم في ملفاتها الاقتصادية والأمنية.
لذا، على الحكومة الجديدة الانتقال من استراتيجية “إدارة الأزمات” إلى “حل الأزمات الجذري” من خلال الالتزام الحقيقي بمسار انتقال ديمقراطي شامل يضمن مشاركة جميع المكونات الاجتماعية والسياسية، وبناء جيش وطني مهني لا يقتصر على “تغيير الأعلام” بل على إعادة الهيكلة الكاملة والولاء للدولة. خلاف ذلك، ستبقى سوريا في حالة من الاستقرار الهش، وستتعرض سيادتها للخطر في كل مرة تحتاج فيها القيادة إلى تنازل جديد للبقاء.
اقرأ أيضاً:سوريا ما بعد الأسد نيويورك تايمز تكشف استمرار علامات الاستبداد
اقرأ أيضاً:صالح الحموي يهاجم الحكومة السورية الجديدة مجموعة أغبياء وفشلة