في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، طُويت صفحة طويلة من تاريخ سوريا بسقوط نظام بشار الأسد، في لحظة تاريخية كان يُفترض أن تكون نقطة انطلاق نحو التعافي وبناء ما دمرته الحرب. لكن، ما شهدته العاصمة دمشق في الأشهر التالية، لم يكن مشهداً لمرحلة انتقالية منظمة، بل بداية لفوضى اجتماعية وثقافية عارمة، قلبت ملامح المدينة رأسًا على عقب.
فوضى في قلب العاصمة:
فور سقوط النظام، بدأت العاصمة تستقبل موجات من الوافدين من مناطق الشمال والشرق، كثيرٌ منهم يزور دمشق للمرة الأولى. لم تكن هذه الحركة نتيجة خطط لإعادة الإعمار أو الاستقرار، بل جاءت بطابع سياحي عشوائي، وغير منظم، ما أدى إلى تصدعات واضحة في البنية الاجتماعية والثقافية للعاصمة.
في الساحات العامة والأسواق، بدأت تظهر ممارسات وسلوكيات غريبة عن المشهد الدمشقي المعروف. مضافات عشائرية مؤقتة، رقصات فلكلورية خارجة عن سياقها، وتجمّعات جماهيرية غير منضبطة. أبرز هذه المشاهد كان تحويل ساحة الأمويين – رمز دمشق المدني – إلى مسرح لرقصات شعبية على أنغام أغانٍ من بيئة الشمال الشرقي، وسط ذهول أهالي دمشق.
من “مدينة العلم والعمل” إلى “الساحة المفتوحة”:
لطالما كانت دمشق وجهة لسكان المحافظات الأخرى بهدف الدراسة أو العمل، في إطار منظومة سكانية منضبطة. لكن بعد السقوط، بدأ المشهد ينقلب. حديقة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون تحوّلت إلى “مضافة عشائرية” تقام فيها احتفالات ذات طابع قبلي، بينما لم تسلم رموز العاصمة، مثل “السيف الدمشقي”، من التحول إلى منصات للرقص.
ناشطة إعلامية فضلت عدم الكشف عن اسمها قالت لشبكة “داما بوست”: “ما نشهده اليوم في دمشق ليس مجرد توافد سكاني، بل حالة من الفوضى الثقافية والاجتماعية نتيجة غياب المؤسسات، وغياب أي جهة تنظّم العلاقة بين السكان والوافدين. الأخطر من التغيير هو غياب القانون.”
حوادث تحرش وسط غياب الردع:
ترافقت هذه الفوضى مع توتر اجتماعي متصاعد، خصوصًا فيما يتعلق بالتعامل مع النساء في الأماكن العامة. فقد تم توثيق حالات تحرّش لفظي وجسدي، أبرزها الاعتداء على صحفية سورية في ساحة عامة، في حادثة وثقتها الكاميرات وأثارت غضبًا واسعًا على وسائل التواصل الاجتماعي.
الشارع ينهار.. لا مرور ولا نظام:
ثاني أيام ما بعد السقوط شهدت دمشق أزمة مرورية غير مسبوقة. آلاف المركبات، معظمها قادمة من إدلب وريف حلب الشمالي، اجتاحت المدينة في تدفّق عشوائي، وسط غياب كامل لشرطة المرور، وظهور مبادرات أهلية لتنظيم السير “زادت الطين بلة”.
استمرت الفوضى لأيام، ووصلت ساحة الأمويين إلى شلل مروري تام لساعات يوميًا، بينما قدّرت مصادر رسمية عدد المركبات المتجولة في العاصمة بأكثر من 20 ألف سيارة، وهو رقم يفوق القدرة الاستيعابية لشوارع المدينة.
الوجه الآخر: دمشق عاصمة للتسوّل؟
بعيدًا عن التحولات السياسية، كانت دمشق تشهد ظاهرة موازية وخطيرة: تصاعد غير مسبوق للتسوّل، خصوصًا في مناطق مثل ساحة السبع بحرات، ساحة عرنوس، جسر الرئيس، وأبو رمانة. وخلال أسبوع واحد فقط، تضاعف عدد المتسوّلين في محيط سوق الحميدية، في ظل غياب أي جهة رسمية تضبط المشهد.
تشير إحصائيات حصلت عليها شبكة “داما بوست” إلى أن عدد المتسوّلين في دمشق بلغ نحو 12,500 متسوّل ومتسوّلة بتاريخ 30 تموز/يوليو 2025، مقارنة بـ 5,000 فقط قبل سقوط النظام بأسابيع، في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2024. وتشير المصادر إلى أن الأرقام الحقيقية قد تكون أكبر، خصوصًا أن الإحصاءات لا تشمل الأطفال أو من يمارسون التسوّل تحت ستار “عمل بسيط” مثل بيع المناديل أو مسح السيارات.
من هم المتسوّلون الجدد؟
التحقيق الميداني لشبكة “داما بوست” كشف عن أربع فئات رئيسية تقف خلف انفجار ظاهرة التسوّل في دمشق:
1- نازحون من الشمال ومناطق النزاع: أغلبهم عاش سابقًا في مخيمات.
2- عوائل عناصر أمن وجيش سابقين: انقطعت عنهم الرواتب والدعم بعد انهيار الدولة.
3- فقراء كانوا يعتمدون على مساعدات حكومية: توقفت بشكل كامل.
4- أطفال بلا أسر: استُغلوا ضمن شبكات منظّمة.
في هذا السياق، ظهرت مؤشرات على نشاط واضح لشبكات تسوّل منظمة بدأت بالتمدّد مباشرة بعد انهيار الأجهزة الأمنية، مستفيدة من الفراغ القانوني والرقابي.
الطفولة تحت الخطر:
من بين كل 5 متسوّلين في شوارع دمشق، هناك 3 أطفال دون سن 12 عامًا. بعض الشهادات التي حصلت عليها “داما بوست” أشارت إلى تعرّض الأطفال للضرب من قبل “مشرفين” في حال عدم تحقيق “الحد الأدنى” من المبالغ اليومية. الأمر لم يعد ظاهرة اقتصادية فقط، بل أصبح مأساة إنسانية معقّدة، تتطلب تدخلاً عاجلاً.
إلى أين تمضي دمشق؟
بعد مرور أكثر من 8 أشهر على سقوط نظام بشار الأسد، لم تنجح الجهات المعنية في ضبط المشهد العام. الشوارع تغرق في فوضى مرورية وثقافية، والفراغ المؤسساتي يفتح المجال لانهيارات أعمق.
يبدو أن سقوط النظام لم يكن كافيًا لجعل الحرية بابًا للكرامة أو العيش الكريم، بل فتح جراحًا أخرى، أبرزها هشاشة المجتمع وغياب المشروع المدني البديل.
فهل تتحول دمشق من عاصمة سياسية إلى عاصمة للتسوّل والفوضى؟
أم أن هناك من لا يزال يؤمن أن إعادة بناء سوريا تبدأ من الإنسان، لا من الجدران؟
إقرأ أيضاً: أسعار العقارات في دمشق تتحدى المنطق: السوق مرتفعة رغم الركود
إقرأ أيضاً: مأساة في قلب العاصمة: عائلات سورية تنام في حدائق دمشق