بيان الإخوان المسلمين في سوريا بعد سقوط النظام: تحوّل في الخطاب أم مناورة سياسية؟
داما بوست -خاص
في السابع من آب/أغسطس 2025، أصدرت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا بياناً باسم مجلس شورى الجماعة في دورته العادية الرابعة، جاء مختلفاً – شكلاً ومضموناً – عن سلسلة البيانات السابقة التي أعقبت سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024. فقد بدا هذا البيان أشبه بخارطة طريق سياسية، تقدّم رؤية الجماعة لمستقبل سوريا، في لحظة دقيقة يتقاطع فيها الفراغ الدستوري مع الحراك السياسي والمفاوضات الدولية المتسارعة.
هذا البيان، الذي يعتبر الأول من نوعه على مستوى الشمول السياسي منذ سقوط النظام، يستحق التوقف عنده لا باعتباره إعلان نوايا عابر، بل بوصفه وثيقة سياسية تعبّر عن موقع الجماعة في سوريا الجديدة، وعلاقتها بالمشهد المحلي والإقليمي والدولي.
أولاً: من البيانات الرمزية إلى البيان السياسي
منذ لحظة سقوط النظام، أصدرت جماعة الإخوان المسلمين ثلاثين بياناً، حملت في أغلبها طابعاً رمزياً وشعاراتيّاً، من قبيل التهنئة بانتصار الثورة، أو التنديد بحدث أمني مثل تفجر كنيسة مار الياس، أو استنكار للعدوان الإسرائيلي على سوريا، دون الخوض في رؤية مفصلة حول ترتيبات ما بعد السقوط.
لكن بيان السابع من أغسطس أتى مختلفاً، من حيث الشكل والمضمون، وكأنه نقطة انعطاف في الخطاب الإخواني في سوريا، أو على الأقل محاولة للانتقال من موقع “المُراقب المؤيد” إلى موقع “الشريك السياسي”.
ثانياً: الدولة المدنية بمرجعية إسلامية… تنازل لغوي أم مراجعة فكرية؟
من أبرز ما ورد في البيان، دعم الجماعة لما وصفته بـ”الدولة المدنية الحديثة بمرجعية إسلامية”. هذه العبارة تبدو محسوبة بعناية، فهي تتجنّب مصطلح “الدولة الإسلامية” الذي شكّل جوهر أدبيات الجماعة لعقود، والمنصوص عليه صراحة في تعريفها الداخلي:
“هدف الجماعة: استئناف الحياة الإسلامية، ببناء الفرد المسلم، والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة”.
فهل نحن أمام تحوّل براغماتي في الخطاب فرضته طبيعة المرحلة وتوازنات السلطة الجديدة؟ أم أمام مراجعة فكرية حقيقية تستجيب لتجارب الماضي وتتعلم من فشل مشروع “الإسلام السياسي” في أكثر من بلد؟
اللافت أن الجماعة، التي خاضت صراعاً دموياً مع “هيئة تحرير الشام” في سنوات ما قبل السقوط، اختارت خطاباً تصالحياً تجاه الدولة الوليدة، عارضة نفسها كطرف ناصح داعم، لا منافس أو وصي.
ثالثاً: المشاركة السياسية والتعددية… انفتاح مرحلي أم قناعة راسخة؟
في لهجة دبلوماسية مرنة، دعا البيان إلى إشراك جميع مكونات الشعب السوري في صياغة المرحلة الانتقالية، واعتماد برنامج سياسي تعددي، والذهاب نحو انتخابات نيابية حرّة. وهذه أول مرة تصرّح فيها الجماعة بمثل هذا الانفتاح السياسي منذ انطلاق الثورة.
هذه الدعوة – رغم عموميتها – قد تفتح باباً أمام عودة الجماعة إلى الحياة السياسية السورية بشكل شرعي ومباشر، بعد عقود من الحظر والملاحقة. لكنها أيضاً تطرح أسئلة حول نوايا الجماعة:
- هل تؤمن فعلاً بتقاسم السلطة وفق معايير مدنية؟
- أم أن الخطاب التعددي هو غطاء مرحلي لتجنب العزلة السياسية في بيئة متوجّسة من الإسلاميين؟
رابعاً: الإسلام الوسطي… وتصفية الحساب مع التيارات المتشددة
حرص البيان على التأكيد بأن الجماعة تنتمي إلى “النهج الإسلامي الوسطي”، في إشارة واضحة لفصل نفسها عن التجارب المتطرفة التي شهدتها الساحة السورية خلال العقد الماضي.
لكن استخدام هذا المصطلح الفضفاض، يفتح النقاش حول مدى وضوح الخط الفاصل بين الوسطي والمتشدد، خصوصاً أن الجماعة خاضت في السابق علاقات متقلبة مع فصائل إسلامية ذات طابع عسكري، وتحالفت مع بعضهم في محطات معينة، قبل أن تخرج لاحقاً من المشهد العسكري تماماً.
خامساً: الموقف من إيران… بين الخصومة العقائدية والتكتيك السياسي
من الملاحظات اللافتة، تحذير البيان من محاولات إيران العبث باستقرار سوريا، رغم أن فرع الجماعة الأم – “الإخوان المسلمون العالمي” – أصدر بياناً مؤيداً لإيران خلال عدوان “إسرائيل” عليها، ما أثار استياءً واسعاً في الأوساط السورية، قبل أن تسارع الجماعة في سوريا إلى التبرؤ من هذا الموقف علناً.
هذا الانفكاك بين التنظيم المحلي والتنظيم الدولي، قد يُفهم كنوع من التكيّف مع المزاج الشعبي السوري، الذي يرى في إيران حليفاً استراتيجياً للنظام الساقط. لكنه في الوقت ذاته يعكس إرباكاً داخل الجماعة حول خطوط التحالف الإقليمي.
سادساً: فلسطين أولاً… موقف يضع الجماعة في مواجهة السلطة الجديدة
في الفقرة العاشرة، أشاد البيان بـ “بطولات الشعب الفلسطيني في غزة والضفة”، ودعا الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم لنصرته. لكن اللافت أن هذا الموقف يتناقض مع صمت الحكومة السورية الحالية التي لم تصدر حتى اللحظة أي موقف مساند لغزة، رغم عدوان إسرائيلي متكرر.
فهل أرادت الجماعة من خلال هذه الفقرة إبراز تمايزها الأخلاقي والسياسي عن الحكومة؟ أم أنها ببساطة عادت إلى أحد أهم شعاراتها التقليدية؟ في الحالتين، فإن هذا الخطاب يضع الجماعة في تصادم غير مباشر مع أي مسار تطبيعي أو اتفاقات أمنية سورية-إسرائيلية مستقبلية.
سابعاً: شكر الحلفاء… ولكن ماذا عن الخصوم؟
بدا لافتاً في البيان أن جماعة الإخوان المسلمين لم تقتصر في شكرها على تركيا وقطر، وهما حليفان تقليديان معروفان بدعمهما التاريخي للجماعة، بل وسّعت دائرة الامتنان لتشمل السعودية والأردن، رغم ما يشوب العلاقة معهما من توترات تاريخية، لا سيما بعد أن اتخذت عمّان قراراً بحظر الجماعة وإغلاق مكاتبها في البلاد عقب سقوط النظام السوري.
فهل يعكس هذا الشكر قبولاً ضمنياً بالترتيبات السياسية الجديدة التي تقودها الرياض؟ أم أنه محاولة ذكية لإعادة تطبيع العلاقة مع خصوم الأمس سعياً لحجز موقع في الخارطة الإقليمية الناشئة؟
الاحتمالان قائمان، لكن المؤكد أن الجماعة تبعث برسالة واضحة مفادها أنها مستعدة لإعادة بناء علاقاتها الإقليمية بكل الوسائل الممكنة، حتى لو تطلّب الأمر تخفيض سقف الخطاب وتجاوز الخلافات السابقة.
خطاب جديد أم أقنعة متعددة؟
في المجمل، يعكس بيان مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين في سوريا تحولاً ملحوظاً في الخطاب السياسي، وتقديماً للذات بصفة وطنية معتدلة، حريصة على الاستقرار والانفتاح والتعددية.
لكن السؤال المركزي يبقى:
هل هذا التحول حقيقي وجذري، نابع من مراجعة داخلية حقيقية لموقع الجماعة وأدائها السابق؟
أم أنه مجرد خطاب تكتيكي مرن يهدف إلى التكيّف مع موازين القوى الجديدة وطمأنة المجتمع المحلي والدولي؟
ربما من المبكر الحكم، لكن الأكيد أن الجماعة تسعى اليوم لتثبيت نفسها كفاعل سياسي مشروع في سوريا الجديدة، بكل ما يتطلبه ذلك من لغة دبلوماسية، ومواقف وسطية، وتنازلات خطابية محسوبة.
وحتى تتضح معالم المرحلة الانتقالية، ستبقى جماعة الإخوان أمام اختبار الزمن والثقة والمصداقية، في بلد لم يعد يقبل الشعارات المعلّبة، ولا يحتمل مزيداً من التجريب.
إقرأ أيضاً: الإخوان في سوريا 2025: هل هو تموضع سياسي أم محاولة للفرار من المسؤولية؟
إقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون في سوريا يصدرون بياناً شاملاً: رؤية للمرحلة الجديدة بعد التحرير