مؤتمر وحدة الموقف: دلالات جغرافية وسياسية لوحدة الموقف السوري
الحسكة هنا ليست مدينة هامشية في نظر المشاركين، بل فضاء سياسي ناشئ، يجرّب منذ سنوات شكلا من الإدارة المحلية جعلها أكثر من مجرد ساحة جغرافية، فهي مختبر للامركزية، وساحة تحدي لإمكانية كسر احتكار دمشق للقرار.
انعقد المؤتمر لتأكيد وحدة الموقف بين مكونات شمال وشرق سوريا، لكن خلف البيانات الختامية يكمن مشروع سياسي لم يكتمل بعد؛ يحمل وعودا بالتحول لكنه مفتوح على هشاشته البنيوية وعلى تحديات توازن القوى بين المركز والأطراف، فالمسألة ليست مجرد إقرار بمبدأ اللامركزية، بل اختبار لقدرة هذه المناطق على إنتاج نموذج حكم قابل للاستمرار، دون أن يتحول إلى جزر سياسية معزولة.

الأطراف في مواجهة المركز: من التهميش إلى صناعة القرار
تاريخ الصراع في سوريا منذ عام 2011 أظهر توترا بين مركز في دمشق، والأطراف التي كانت سهلة على الاختراق نتيجة ظروف اقتصادية وسياسية متشابكة، ومؤتمر الحسكة، بهذا المعنى، ليس مبادرة محلية بقدر ما هو حلقة في سلسلة محاولات إعادة رسم الخريطة السياسية على أساس توزيع السلطة، لكنه في الوقت ذاته يُثير سؤالاً جوهريا؛ هل تستطيع الأطراف، حين تمنح أدوات الإدارة الذاتية، أن تنتج نموذجا سياسيا أكثر تماسكا من المركز التاريخي؟
البيان الختامي تحدث عن “دولة ديمقراطية لا مركزية” تؤمّن تمثيلا فعّالا لكل المكونات، لكن ذلك يظل، حتى الآن، إعلان نوايا أكثر من كونه برنامجا سياسيا متينا، فإعادة تعريف الدولة من خلال تمكين المجتمعات المحلية ليست مجرد صياغة دستورية، بل عملية صراع مع تاريخ طويل من مركزية القرار، والتحدي هنا مزدوج يظهر في بناء شرعية محلية تحظى بالاعتراف، وصياغة علاقة جديدة مع المركز، لا تقتصر على التفاوض في الهوامش.
التنوع كأرضية سياسية لا كزينة خطابية
أحد أبرز ما أعلنه المؤتمر هو اعتبار التنوع الإثني والديني والثقافي “مصدر قوة”، لكن التجربة السورية تُظهر أن مجرد الاعتراف بالتنوع لا يضمن حماية هذا التنوع، والفرق بين التصالح الرمزي وبين بناء مؤسسات ضامنة هائل، والأطراف كثيرا ما وقعت في فخ الخطاب التوافقي الذي لا يمتلك آليات تنفيذية، فالتحدي أمام الحسكة هو الانتقال من مفهوم “التسامح” الذي يُمنح من الأعلى، إلى مفهوم “الشراكة” التي تُبنى على مساواة فعلية في السلطة.
الرهان على التنوع هنا ليس ترفا سياسيا، بل شرط بقاء، فالمناطق التي تفشل في إدارة فسيفسائها البشري تتحول عاجلا أو آجلا إلى بؤر نزاع، والمفارقة أن الحسكة، التي كان ينظر إليها تاريخيا كمنطقة هامشية في القاموس السياسي السوري، تحاول اليوم أن تقدم نفسها كنموذج لإدارة التنوع، ليس على أسس هوية قومية جامعة، بل على أسس مؤسسات قادرة على امتصاص التوترات، وهذا محط اختبار ولا يبنى على النوايا، والبديل ليس إحلال مكون في إدارة البلاد مكان مكون آخر، بل سورية الموحدة التي تدين بالهوية السورية وتمارس الولاء لتاريخ عريق، ومكونات متنوعة، وقاعدة حقوقية واحدة للجميع بغض النظر عن أي عرق أو دين.
الإدارة الذاتية: من التجربة المحلية إلى المشروع الوطني
ربما أكثر ما يثير الجدل في البيان الختامي هو وصف الإدارة الذاتية بأنها “نواة لنموذج جديد للجيش الوطني السوري”، فهذا الطرح يتجاوز حدود الحسكة ليضع تصورا مختلفا لمفهوم الوطنية نفسها، حيث الجيش مبني على تمثيل المكونات المحلية، لكن تحويل هذه الفكرة إلى واقع يتطلب أكثر من توافق سياسي بين ممثلي المكونات، بل يستدعي إعادة هيكلة العلاقة بين العنف المشروع والشرعية السياسية.
في الفلسفة السياسية، الدولة تُعرف باحتكار العنف، أما في نموذج الحسكة، فثمة محاولة لإعادة صياغة هذا التعريف، فالعنف المشروع لا يحتكره مركز السلطة في دمشق، بل يُدار محليا عبر مؤسسات تشاركية، وهذه المقاربة تبدو جذابة من منظور اللامركزية، لكنها تواجه تحديا وجوديا، فكيف تضمن وحدة قرار الأمن القومي في دولة موزعة الصلاحيات على أطراف متعددة؟
العدالة الانتقالية: من شرط أخلاقي إلى أداة جيوسياسية
لا يخلو البيان من وعي بعمق الجراح التي خلفتها الحرب، والحديث عن العدالة الانتقالية وعودة المهجرين ورفض التغيير الديموغرافي ليس مجرد خطاب أخلاقي، بل إدراك بأن أي مشروع سياسي سيبقى هشا إن لم يُبنَ على معالجة الذاكرة الجمعية، ففي سوريا ما بعد النزاع، الذاكرة ليست مجرد إرث، بل أداة صراع سياسي، وكل خريطة جغرافية تحمل وراءها خريطة عاطفية، وأي مشروع يتجاهل هذه الأخيرة، محكوم بالفشل.
لكن العدالة الانتقالية في السياق السوري تظل معقدة، فمن يملك سلطة تطبيقها؟ وكيف يمكن تنفيذها في ظل سلطة مزدوجة بين المركز والأطراف؟ مؤتمر الحسكة أشار إلى هذه المسألة، لكنه لم يقدّم خارطة طريق واضحة، ما يتركها رهينة النوايا.

مشروع في طور التشكل
كل ما طُرح في الحسكة، من اللامركزية إلى العدالة الانتقالية، يبدو على الورق خطوة نحو إعادة صياغة الدولة السورية، لكن الفجوة بين النصوص والقدرة على التنفيذ لا تزال واسعة، المشروع بحاجة إلى نضج سياسي وإلى بيئة تفاوضية أكثر شمولا، لا تقتصر على أطراف شمال وشرق سوريا، بل تشمل القوى الفاعلة في بقية البلاد.
هذا النضج لن يتحقق دون الاعتراف بأن الصراع بين المركز والأطراف ليس مسألة فنية أو إدارية، بل هو جوهر الأزمة السورية، وفي غياب تفاهمات دستورية وشراكة فعلية للسلطة، سيتحول مؤتمر الحسكة إلى حلقة إضافية في سلسلة محاولات لم تكتمل، بدل أن يكون نقطة انعطاف حقيقية.
مؤتمر الحسكة يفتح نافذة على مستقبل محتمل لسوريا، لكنه في الوقت نفسه يعكس حدود الممكن في لحظة سياسية مأزومة، ونجاحه مرهون بقدرته على تجاوز الانقسام التقليدي الذي يجعل من الأطراف مجرد أوراق ضغط على المركز، والفشل، في المقابل، سيعيد إنتاج المعادلة القديمة حيث العنف يسبق الحوار، والانقسام يسبق أي عقد اجتماعي جديد.
إقرأ أيضاً: دمشق تعلن مقاطعة اجتماعات باريس وترفض مؤتمر قسد في الحسكة
إقرأ أيضاً: بيان ختامي لمؤتمر وحدة الموقف لمكونات شمال وشرق سوريا