دستور من رماد: كيف مهد الغياب السياسي لمجازر السويداء والساحل

الوثيقة الدستورية التي كان يُفترض أن تكون بوابة عبور من الحرب إلى الدولة، تحوّلت إلى متاهة بيروقراطية بلا بوصلات سياسية واضحة، وما حدث ليس مجرد إخفاق تقني، بل عجز هيكلي عن تقديم بديل مقنع، ما جعل البلاد مكشوفة أمام التفكك الاجتماعي والسياسي والعنف المعاد تدويره.

إقرأ أيضاً: هوية سوريا البصرية الجديدة: هل يكفي الشعار لتأسيس جمهورية؟

 

فشل التأسيس: لجنة مغلقة بلا شرعية سياسية

بدأ الخطأ من لحظة التشكيل عندما ظهرت لجنة من سبعة أشخاص غير منتخبين، وتم اختيارهم بلا معايير تمثيلية واضحة، وتولّوا مهمة صياغة إعلان سيادي لدولة خرجت من 14 عاما من الحرب والانقسام والدمار، فلم تُستشر القوى السياسية الأساسية؛ لا المعارضة المنظمة ولا المجالس المحلية الناشئة، ولا حتى هيئات المجتمع المدني أو القوى الدينية المؤثرة.

ما جرى هو تمرير “نص وظيفي”، بلا أرضية سياسية. كما أشار مركز “SCM” و”Arab Center”، فإن غياب “فلسفة سياسية مشتركة” جعل الإعلان مجرد تجميع مواد تقنية، بلا هوية وطنية جامعة، فهو دستور بلا سياسة، وإعلان بلا خيال سياسي، ونص بلا مشروع.

دولة بلا شكل: غموض في الهوية وصيغة الحكم

ما من وثيقة انتقالية يُعوّل عليها لتأسيس دولة يمكن أن تتجاهل السؤال الجوهري: ما نوع الدولة التي نريد؟ مدنية؟ ديمقراطية؟ لامركزية؟ فدرالية؟ الحكم برلماني أم رئاسي أم مختلط؟ فالإعلان تهرّب من هذه الأسئلة، والنتيجة نصا مفتوحا على كل التفسيرات، وقابلا لإعادة التوظيف حسب موازين القوى.

عناوين مثل “فصل السلطات” أو “استقلال القضاء” لم تتجاوز الطابع الرمزي، إذ غابت التفاصيل والآليات: كيف يُحاسب الرئيس؟ من يعيّن القضاة؟ ما هو دور البرلمان؟ كلها أسئلة لم تُجب، وهو ما يحوّل الوثيقة إلى قشرة دستورية تغلّف مركزية سلطوية.

إقصاء اجتماعي ومجتمعي: لا صوت للأقليات والمهمشين

في سوريا، لا يمكن تجاهل البنية المجتمعية المعقدة والطوائف والأعراق التي تشكل نسيجها، لكن اللجنة التي صاغت الإعلان تجاهلت ذلك، فلا حضور فعلي للكرد، ولا تمثيل حقيقي للعلويين، ولا اعتبار للدروز أو للمسيحيين أو للنساء، بل حتى النخب الشبابية المدنية غابت بالكامل.

رفض 46 كيانا سوريا الإعلان، واعتبروه محاولة جديدة لـ”إعادة تدوير الاستبداد”، حيث تم فهم الإعلان على أنه التقاء مصالح ضيقة على حساب التعددية، ما أفقده أي شرعية سياسية أو رمزية حقيقية، وهو إعلان لطبقة سياسية صغيرة تتحدث باسم شعب لا يُسمع له صوت.

إقرأ أيضاً: جمهورية الشيخ

العودة إلى المركزية: رئاسة مطلقة بلا رقابة

منح الإعلان للرئيس الانتقالي صلاحيات واسعة تجاوز ما كان قائما زمن سلطة البعث، فهو يعيين ثلث البرلمان، ويصدر المراسيم، ويسيطر على القضاء، وألغي منصب رئيس الوزراء، فهو رئيس جمهورية بنزعة إمبراطورية، لا يُحاسب ولا يُقيد.

الأخطر أن هذا الرئيس ليس منتخبا، ما ينفي عنه أي مشروعية ديمقراطية، وبهذه الطريقة يتحوّل “المرحلي” إلى “دائم”، و”الانتقالي” إلى “استبدادي” مقنّع، في غياب أي آليات تضمن التداول أو الشفافية أو حتى المشاورة الحقيقية.

مرحلة انتقالية مؤبدة: خمس سنوات من التعليق السياسي

فترة انتقالية مدتها خمس سنوات، في بلد يعيش على الفوضى والانقسام، ليست وصفة للاستقرار، بل وصفة للتجميد، فبدون خارطة طريق واضحة، وبلا أدوات مساءلة، يصبح الزمن الانتقالي سلاحا سياسيا، لا مرحلة لبناء المؤسسات.

المشكلة ليست في طول المدة فحسب، بل في غياب أي بنية تراكم ديمقراطي، فلا دستور دائم في الأفق، ولا انتخابات ذات مصداقية، ولا مفوضية مستقلة، ولا إعلام حر، فكل ما هنالك هو سلطة قائمة، محمية بغلاف قانوني هش، وقادرة على الصمود لا بفضل قوتها، بل بفضل غياب البديل.

إقرأ أيضاً: السويداء تحت الرماد: شعارات طائفية وجثث في الشوارع وسط تحذيرات من كارثة صحية

المجازر كعلامة تحلل: الساحل والسويداء كدليل نهائي

ما حدث في السويداء والساحل ليست مجرد جرائم، فهي انفجار لفراغ سياسي، وعنف نتيجة غياب مشروع، فحين تفشل السلطة في استيعاب الهويات المختلفة، وتنهار ثقة الناس بالمركز، يتحول العنف إلى لغة وحيدة، فلا مؤسسات تُحتكم إليها، ولا مرجعية وطنية موحدة، ولا عقد اجتماعي متفق عليه.

الانفجار الأمني هو تحصيل حاصل لانفجار سياسي أعمق، وإعادة إنتاج المركزية بوجوه جديدة لن يوقف الانهيار، بل يؤجله إلى لحظة أشد.

غياب المشروع = غياب الدولة

خلاصة المشهد أن سوريا اليوم لا تملك مشروعا سياسيا وطنيا، والإعلان الدستوري ليس أكثر من ورقة رمادية عاجزة عن احتضان التنوع، ولا تصوغ دولة، ولا تفتح طريقا، بل تمنح سلطة مؤقتة غطاء دائما، وتحوّل الطابع الانتقالي إلى غيبوبة سياسية.

إن فشل الإعلان لا يُقاس فقط بعدد المواد أو الهياكل، بل في قدرته على طرح سؤال المستقبل؛ ماذا تريد سوريا أن تكون؟ من يحكم؟ كيف يُحاسب؟ من يشارك؟ هذه الأسئلة غابت، ومع غيابها غاب الأمل.

لم يكن الإعلان الدستوري مشروعا للانتقال، بل غطاء لتثبيت سلطة ما بعد الحرب، وفشل ليس فقط لأنه غير تمثيلي، بل لأنه بلا روح سياسية، ففي بلد تمزقه الانقسامات لا معنى لدستور لا يُكتب عبر التوافق، ولا قيمة لمرحلة انتقالية بلا مشروع جامع.

 

إقرأ أيضاً: هل يمهّد اتفاق وقف إطلاق النار في السويداء لبداية حكم ذاتي؟

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.