لم تُعرف الولايات المتحدة يومًا بكونها فاعلًا بريئًا في السياسة الدولية. علاقتها بالشرق الأوسط لم تقم على المبادئ، بل على توازنات المصالح. واليوم، ومع وجود دونالد ترامب على رأس البيت الأبيض، تتعزز هذه الرؤية أكثر من أي وقت مضى: رجل ينظر إلى الجغرافيا السياسية كما ينظر إلى سوق استثماري، لا يقدم شيئًا دون مقابل، ولا يرى في الاتفاقات سوى عقود مشروطة بمكاسب ملموسة.
في هذا السياق، يصبح السؤال عن الأجندة الأميركية في سوريا بعد انهيار النظام السابق مشروعًا وملحًا: لماذا هذا الحراك المتسارع؟ وما الهدف الحقيقي من وراءه؟
تحولات لافتة في السلوك الأميركي
منذ سقوط النظام السوري، بدت إدارة ترامب كأنها انتقلت إلى طور جديد في تعاطيها مع الملف السوري. العقوبات التي كانت تُستخدم كأداة ضغط تمّ تعليقها، وعدد من الأسماء التي لطالما صُنفت كـ”إرهابية” أُزيلت من القوائم السوداء. الحدث الأبرز تمثّل في لقاء ترامب بأحمد الشرع، رئيس المرحلة الانتقالية، في العاصمة السعودية، حيث لم يتردد الرئيس الأميركي في وصفه بأنه “قوي وصادق”، في تحول مختلف في خطاب واشنطن.
لكنّ هذا الانفتاح لم يكن مجانيًا. تشير تسريبات دبلوماسية إلى أن لقاء الرياض تضمّن عرضًا مباشرًا: الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام، والانخراط في النظام الإقليمي الجديد، مقابل رفع العقوبات واستئناف الدعم الأميركي.
إقرأ أيضاً: أنباء عن تحشيد عسكري إسرائيلي جنوب سوريا
نفوذ يتجاوز الجغرافيا
لا تقتصر المقاربة الأميركية في سوريا على البعد السياسي فحسب، بل تنخرط ضمن رؤية أوسع لإعادة تشكيل الإقليم وفق توازنات جديدة. في هذا السياق، مارست واشنطن ضغوطًا متزايدة على “قسد” لدفعها نحو الاندماج في بنية الدولة السورية الناشئة، وطرحت ملف العلاقة مع لبنان بوصفه أولوية، مطالبة بفتح قنوات تطبيع كاملة وترسيم الحدود بين البلدين، بما يشمل تسوية ملف مزارع شبعا المحتلة. كما أعادت الإدارة الأميركية رسم شبكة علاقاتها الدبلوماسية في المنطقة بما يخدم هذا التوجه. في هذا التصوّر، لم تعد سوريا مجرد بلد يخرج من أنقاض الحرب، بل تتحول إلى حلقة مركزية في منظومة إقليمية قيد التشكيل، تُصاغ ملامحها تحت إشراف أميركي مباشر.
التطبيع… ثمناً سياسياً
في صلب الرؤية الأميركية لإعادة تشكيل الإقليم، يُطرح التطبيع مع “إسرائيل” بوصفه حجر الزاوية، لا خيارًا قابلًا للنقاش. فكما كشفت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفت، فإن واشنطن وضعت الانضمام إلى “اتفاقيات أبراهام” على رأس مطالبها من دمشق، دون مواربة أو شروط وسطية. وعلى هذا الأساس، يمكن فهم التشبث “الإسرائيلي” بالإبقاء على الجولان تحت سيطرته، ورفضه المطلق لأي حوار يعيد طرح مسألة السيادة عليه.
الرسالة التي تُبنى على هذا المنطق مباشرة، إعلان ترامب الاعتراف بسيادة “إسرائيل” عليه ما زال قائمًا، و”تل أبيب” لا تبدي استعدادًا للتراجع. الشرط واضح: لا عودة للجولان، ولا تطبيع من دون اعتراف بالوقائع الجديدة. ومع ذلك، تواصل دمشق التأكيد على تمسكها باتفاق فض الاشتباك الموقع عام 1974، كمرجعية قانونية وأمنية لا تزال تعتبرها أساسًا لأي تسوية مستقبلية في الجنوب.
إقرأ أيضاً: الشبكة السورية لحقوق الإنسان: تصاعد انتهاكات الجيش الإسرائيلي بحق المدنيين جنوبي سوريا
تموضع عسكري جديد
في الميدان، يعكس الوجود العسكري الأميركي نمطًا استراتيجيًا أكثر ثباتًا. قواعد جديدة تُبنى في البادية، ريف دمشق، وشمال شرق البلاد، في مواقع تختزن بعدًا جغرافيًا وأمنيًا حساسًا. التبرير الرسمي يظل محاربة “داعش”، لكن الواقع يقول إن واشنطن تمهد لوجود دائم، هذا التواجد يعيد إنتاج سيناريو “مظلّة الحماية” كما حدث في الخليج.
هذا الحضور لا يكتفي بالدور الأمني، بل يسعى لتثبيت نمط من الوصاية يُبقي القرار السيادي السوري محكومًا بالتنسيق مع واشنطن.
أمن مشترك… وتنسيق محدود
التهديدات الأمنية المتجددة، بدءًا من عودة تنظيم “داعش” بحلته الجديدة، ووصولًا إلى بروز تنظيم “سرايا أنصار السنة” الذي يتبع اسلوباً وتكتيكاً مشابهاً لداعش، تفجير كنيسة مار الياس وحرائق الغابات في الساحل السوري، هذا يفرض على واشنطن ودمشق شكلًا من أشكال التنسيق، ولو بقي في حدوده الدنيا لتبرير التواجد الأمريكي الفعلي. فالخطر المتنقل بين البادية والشرق السوري، والعمليات النوعية التي بدأت تظهر في اللاذقية وطرطوس، دفعت الجميع لإعادة النظر في طبيعة المرحلة المقبلة.
وفي الجنوب، تتزايد المؤشرات على وجود ترتيبات أمنية ترعاها واشنطن، بين دمشق و”تل أبيب”، هدفها منع تحول تلك المنطقة إلى مقاومة جديدة، ضد النفوذ الإسرائيلي.
ورقة “قسد”… في يد المفاوض الأميركي
واشنطن تلعب بمهارة بورقة قوات سوريا الديمقراطية. من جهة، تصر على ضرورة دمجها في مؤسسات الدولة السورية بحسب تصريحات المبعوث الرئاسي توم باراك ، ومن جهة أخرى، تواصل تمويلها بمبالغ كبيرة، كما حدث مؤخرًا مع الإعلان عن دعم مشترك لـ”قسد” و”جيش سوريا الحرة” بقيمة 130 مليون دولار من قبل البنتاغون. هذا التناقض ليس صدفة، بل جزء من إدارة متعددة الاتجاهات، تُبقي أوراق الضغط في يد واشنطن إلى أقصى درجة ممكنة.
إقرأ أيضاً: جنوب سوريا: وسط ضوضاء التطبيع .. إسرائيل تسعى لفرض واقع جديد
سوريا الجديدة… على مقاس خارجي
الأولويات الأمريكية باتت واضحة: إقصاء النفوذ الإيراني والروسي، تأمين الجبهة الإسرائيلية، إعادة ضبط العلاقة الخارجية لسوريا، وربطها بشبكة مصالح إقليمية تدار من واشنطن و”تل أبيب”.
لكن تبقى المعضلة الأهم داخلية: هل تستطيع السلطة السورية الجديدة الاستمرار في هذا المسار دون أن تخسر جزءًا كبيرًا من شرعيتها؟ وهل يمكن مطلب استعادة الجولان وما احتل مؤخراً بعد سقوط النظام أن يوضع في الثلاجة إلى أجل غير مسمى، مقابل “ثمن سياسي” لم تتضح كل ملامحه بعد؟
في عالم الصفقات، لا شيء مستبعد. لكن تبقى الكلفة السياسية مرتفعة، وربما تتجاوز ما يمكن لسوريا، بعد عقد من الدمار، أن تتحمله.
إقرأ أيضاً: إسرائيل تفرض واقعًا جديدًا في الجنوب السوري.. وصمت حكومي يثير الغضب الشعبي