خطاب “السلم الأهلي والفلول”: قراءة نقدية في تعهدات الدولة
أولًا: التأطير السردي
المصطلحان الحاكمان في التقرير هما “السلم الأهلي” و”الفلول”، ويُعاد تأطيرهما عبر خطاب ديني – سياسي يُريد أن يُظهِر مرحلة انتقالية لا تقوم على المحاسبة فقط، بل على العفو مقابل الأمن.
الشيخ أنس عيروط، بصفته الدينية والاجتماعية، يُقدَّم كوسيط بين الشعب والدولة، لا كجزء من الجهاز الأمني، لكنه في الوقت نفسه، لا يتحدث بصفته معارضا أو مراقبا، بل كمُعبِّر عن إجماع مُفترَض، وهو ما يجعل خطابه ينسجم مع أهداف الدولة حتى وإن لم يصدر عنها مباشرة.
في التأطير العام، الفلول هم العدو المجهول فلا يتم تعريفهم بدقة، ولكن يتم استحضارهم لتبرير استمرار الإجراءات الأمنية، فيما يُعرَض السلم الأهلي كهدف استراتيجي يتطلب قرارات غير شعبية (مثل الإفراج عن بعض المتهمين).
التموضع الإيديولوجي
يرتكز خطاب عيروط على ثنائية “الواقعية السياسية مقابل العدالة المطلقة”، فهو لا ينكر أهمية المحاسبة، لكنه يقدّم السلم الأهلي كأولوية، ويرى أن “العفو المشروط” جزء من هذا التوازن، وهذه اللغة تعكس تموضعا إيديولوجيا يبرّر التأجيل أو التنازل عن بعض مبادئ العدالة، مقابل استقرار قابل للتسويق.
المتحدث لا يظهر بوصفه مفاوضا بين طرفين متكافئين، بل كمُمَر للخطاب الرسمي من زاوية اجتماعية ودينية، هو يُشرعن مواقف الدولة من خارج أجهزتها، مما يُضيف للرسالة الرسمية قوة رمزية يصعب رفضها شعبيا.
التحكم بالمعرفة
من يملك الخطاب يملك التحكم بما يُقال وما يُحجب، وهذا ما نجده في خطاب الشيخ عيروط، فهناك تغييب متعمد لكثير من التفاصيل:
- من هم “الفلول” تحديدا؟
- ما هي معايير الإفراج؟
- من يقرر من يُعفى عنه ومن يُحاسب؟
كل هذه الأسئلة تُغلّف بلغة فضفاضة مثل: “المرحلة حساسة”، “لا يمكن الإعلان عن كل شيء”، “بعض الإجراءات تجري بصمت”، وهذا الغموض ليس عفويا، بل هو أداة سياسية لإدارة الرأي العام ومنع المساءلة المباشرة.
التبسيط والاختزال
يقدّم الخطاب معادلة بسيطة، العفو أو الفوضى، ولا يتمطرح خيار ثالث، مثل العدالة التدرجية أو المصالحة المشروطة، وهذا أحد الأساليب في اختزال الأنظمة التعقيد الاجتماعي والسياسي في ثنائيات ضيقة، تسهّل التحكم في الجمهور.
في هذا السياق، يتم تجاهل:
- العدالة الانتقالية كمفهوم متعدد الأبعاد.
- أصوات الضحايا ومطالبهم.
- قضايا التعويض وكشف الحقيقة.
ما يُقدَّم هو نموذج شكلي للعدالة، لا يُناقش جذور الأزمة، بل فقط مخاوفها الأمنية.

الرسائل الضمنية
الرسائل الأقوى في الخطاب ليست ما يُقال، بل ما يُلمّح إليه:
- المصالحة قائمة، لكن بشروط الدولة.
- الإفراجات محدودة وتحت السيطرة، لكن لا مجال لمناقشتها علنا.
- لا مكان لعدالة شاملة الآن، بل لتسويات موضعية تُغلف بخطاب ديني.
الشيخ عيروط، بما يحمله من رمزيات، لا يُقدَّم كخصم أو مستقل، بل كحلقة ناعمة داخل ماكينة خطابية تعمل على تهدئة الشارع وتثبيت الأمن كأولوية فوق العدالة، وما نصل إليه في حديثه:
- البنية الخطابية: تُمركز الدولة كمصدر للسلام، وتُغيِّب صوت الضحايا.
- الوظيفة: ليس إقرار عدالة، بل تثبيت الاستقرار السياسي من خلال تسويات ظاهرها مجتمعي.
- الإيديولوجيا: تُستبدَل العدالة بالمصالحة الشكلية، ويُقدَّم الأمن كقيمة عليا لا تُناقَش.
- التحكم الخطابي: تم تغييب أي صوت نقدي أو بديل واقعي، واستُخدِم الدين كغطاء لسياسات الدولة.
سلام معلّق وعدالة مؤجلة
في الخطاب الذي قدّمه الشيخ الدكتور أنس عيروط، تم نقل مشهد العدالة الانتقالية في سوريا من ساحة المحاسبة إلى ميدان التسويات السياسية، ورغم نبرته التصالحية، فإن ما ظهر كان خطابًا يُشرعن العفو دون وضوح، ويُعيد تعريف العدالة كمجرد وسيلة لاحتواء الأزمة، لا لحلها.
الخطاب الذي قدمه ليس مجرد كلمات، بل بنية سلطوية تعمل على إعادة تشكيل مفاهيم الأمن والعدالة والسلم، بما يخدم منطق الدولة لا منطق الحقوق.
إقرأ أيضاً: أنس عيروط ينفي وقوع مجازر في الساحل السوري ويحمل جهات خارجية المسؤولية
إقرأ أيضاً: العدالة الانتقالية تشعل الجدل: هل تُحاسب جهة وتُعفى أخرى؟