التطبيع هو مصطلح يُستخدم للإشارة إلى عملية إعادة بناء أو إقامة علاقات طبيعية بين دولتين أو أكثر، بعد فترة من التوتر أو القطيعة أو العداء. ويشمل التطبيع عادةً مجالات متعددة مثل العلاقات الدبلوماسية، والتعاون الاقتصادي، والتبادل الثقافي، والتنسيق الأمني.
غالبًا ما يُواجَه التطبيع برفض شعبي في الدول العربية، ويُنظر إليه كخرق لمبدأ التضامن مع أهالي الأراضي المحتلة خاصة الشعب الفلسطيني، خاصة إذا لم يكن مشروطًا بإنهاء الاحتلال.
في عام 1949، قاد حسني الزعيم أول انقلاب عسكري في تاريخ سوريا الحديث. لم يكن الرجل يبحث فقط عن السلطة، بل عن اعتراف خارجي يمنحه شرعية أسرع من الداخل السوري المتقلب. توجه فورًا نحو واشنطن، وفتح قنوات خلفية مع “تل أبيب”، مقترحًا تسوية سياسية تشمل توطين اللاجئين الفلسطينيين في سوريا مقابل السلام والدعم.
اللافت في تلك القصة أن حسني الزعيم لم يكن يحكم باسم مشروع أيديولوجي واضح، بل باسم “الواقعية السياسية”، وهي ذاتها العبارة التي تُستخدم اليوم لتبرير خطوات التقارب مع “إسرائيل”.
ومع ذلك، لم يمضِ وقت طويل على انقلابه حتى أُطيح به، ولم تتمكن أي قوة خارجية من حماية حكمه، رغم كل محاولات التفاهم.

القصة، رغم قدمها، لا تزال صالحة لفهم ما يحدث اليوم، خاصة في ظل الرفض الشعبي السوري الحاد لأي شكل من أشكال التطبيع مع “إسرائيل”، الذي يعتبره الشعب خيانة للحقوق الوطنية وقضية الجولان، وتجاوزًا لدماء الشهداء والتضحيات المتواصلة.
إقرأ أيضاً: سوريا بين خطوط النار: كيف تُرسم ملامح المستقبل في ظل الحرب الإسرائيلية – الإيرانية؟
إشارات اليوم: رفع العقوبات ومسار التفاوض الأمني
في فترة حكم ترامب، حدث ما بدا حينها مفاجئًا: تم رفع اسم سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب للمرة الأولى منذ عام 1979. ترافق ذلك مع رفع عدد من العقوبات، ضمن خطوات جزئية لم تُفسَّر بالكامل، ثم تبعها الإعلان عن “بدء مسار تفاوضي أمني” مع “إسرائيل” برعاية أمريكية.
بعيدًا عن اللغة الرمزية، لا يمكن تجاهل التوقيت والسياق. هذه الخطوات لم تكن نتيجة تحوّل جوهري في السلوك السياسي السوري، بل نتيجة ترتيبات أوسع بدأت تتشكل في المنطقة، عنوانها المركزي: دمج “إسرائيل” ضمن منظومة أمنية عربية من دون قيدٍ أو تحفظ.
وهنا تتضح الصورة أكثر: ما يُعرض ليس مجرد تفاهم أمني، بل شكل من أشكال التطبيع الكامل من طرف واحد، بدون مكافأة سياسية حقيقية، وبدون حتى اعتراف مبدئي بحقوق سوريا في أرضها، في وقت ما زال الشعب السوري يرفض رفضًا قاطعًا التطبيع، ويؤكد تمسكه بالجولان وحق العودة والكرامة الوطنية.
إقرأ أيضاً: صورة الشرع في تل أبيب: مؤشر على تحولات جيوسياسية محتم
تطبيع بلا مقابل: الجولان خارج الطاولة
المؤشر الأبرز على ذلك هو ملف الجولان. فعلى عكس ما كان يُفترض أن يكون أساس أي تفاهم بين سوريا و”إسرائيل”، فإن المطالبات الإسرائيلية اليوم، وفق الوثائق والسياسات الرسمية المعلنة، تنطلق من مبدأ أن الجولان “جزء من السيادة الإسرائيلية”، أي أن أي تقارب لا يشمل حتى النقاش على استعادته، بل العكس: المطلوب من سوريا هو قبول هذا الواقع كجزء من “شروط السلام”.
ما يُطلب من سوريا اليوم ليس فقط التخلي عن حالة العداء، بل التخلي عن حق تاريخي مثبت، ومعترف به حتى من قبل قرارات الأمم المتحدة، مقابل وعود غامضة بالإفراج عن بعض الموارد أو تخفيف الضغط الدولي.
هذا النوع من التطبيع لا يمكن فهمه إلا كتنازل مذل، يُراد فرضه تحت وطأة الانهيار، ويأتي في مواجهة مباشرة مع إرادة السوريين الرافضة لكل محاولة تمس السيادة الوطنية.
الموقف الشعبي
الرفض الشعبي للتطبيع لا يقتصر على موقف سياسي فقط، بل ينبع من تجربة تاريخية عميقة تراكمت عبر أجيال من النضال والتضحيات. الشعب السوري يرى في التطبيع خيانة لقيم النضال الوطني، وللذاكرة الجماعية التي تحمل آلام فقدان الأرض واللاجئين والشهداء. هذا الرفض المتجذر يعبر عنه بوضوح في كل مظهر من مظاهر الحياة اليومية، من الثقافة والفن إلى الاحتجاجات الشعبية، ويشكل حاجزًا نفسيًا واجتماعيًا يحول دون قبول أي خطوة تقرب من العلاقة مع “إسرائيل” مهما كانت التنازلات المقترحة. هو رفض مبني على قناعة بأن السيادة والكرامة لا تُشترى، وأن أي اتفاق لا يعيد الحقوق التاريخية، خصوصًا في قضية الجولان واللاجئين، هو اتفاق مرفوض من الأساس.
إقرأ أيضاً: إعلام إسرائيلي: سوريا تطلب ثلث الجولان وأراضي لبنانية للتطبيع مع إسرائيل
“إسرائيل” لا تحتاج اليوم إلى الحرب… لكنها تحتفظ بها كخيار
قد يبدو الآن أن “إسرائيل” لا تملك مصلحة مباشرة في احتلال أراضٍ سورية أو لبنانية. عدد سكانها مستقر، المخاطر التقليدية من الجيوش النظامية المجاورة لم تعد قائمة، والحروب المفتوحة لا تخدم اقتصادها أو صورتها أمام العالم.
لكن هذا ليس ضمانة، “إسرائيل” لا تحسم الأمور فقط بقوة السلاح، بل بإضعاف الخصوم عبر الأدوات السياسية والأمنية والاقتصادية. وإن لم تستطع احتلال أرض، فإنها تسعى لفرض هيمنة دائمة عليها من خلال تحييد الجيوش، ومراقبة القرار السيادي، وضمان أمن حدودها بأيدٍ عربية.
وإذا ما تغيّرت الظروف السكانية والسياسية خلال عقد أو أقل، فقد تعود إلى منطق السيطرة المباشرة، في وقت تكون فيه الدول المحيطة قد فُرّغت تمامًا من إمكانيات الرد.
إقرأ أيضاً: إسرائيل تربط تطبيع العلاقات مع سوريا بالاعتراف بسيادتها على الجولان المحتل
من التفاهم الأمني إلى التحييد الكامل
التحولات الجارية تقود إلى وضع جديد في المنطقة: دولٌ منزوعة القرار، محكومة باتفاقيات أمنية قسرية، تتعامل مع “إسرائيل” كطرف شرعي متفوّق، لا كعدو ولا حتى كندّ. وهذه ليست تسوية، بل إعادة صياغة لمفهوم الدولة في الإقليم.
في هذا النموذج، لم يعد المهم أن تُوقّع معاهدة سلام. يكفي أن تتخلى عن العداء، أن تُغلق ملف الجولان، أن تقبل بالمراقبة الأمنية، وأن تبني سياساتك الدفاعية تحت سقف “التنسيق الإقليمي”.
هذا الشكل من التفاهم لا يمنح أي حماية حقيقية، بل يُحوّل الدولة إلى مساحة هامشية تُدار من الخارج، وتُضبط من الداخل باسم “الاستقرار”، في ظل رفض شعبي واضح وحاسم للتطبيع كخيار سياسي أو وطني.
إقرأ أيضاً: جنوب سوريا: وسط ضوضاء التطبيع .. إسرائيل تسعى لفرض واقع جديد
التطبيع ليس مخرجًا… بل بداية مرحلة أخطر
من يراهن على التطبيع كوسيلة لإنقاذ الاقتصاد، أو لتثبيت الحكم، يغفل عن نقطة أساسية: “إسرائيل” لا تريد علاقات متكافئة، بل قبولًا كاملاً بهيمنتها، في ظل أوضاع محلية منهارة.
وما يُعرض على سوريا اليوم، ليس سوى تكريس لفكرة أن الحل يمر عبر “تل أبيب”، وأن أي نهوض مشروط بالتخلي عن الماضي، بما فيه الجولان، والموقف السياسي، وأسس العقيدة الوطنية.
وهنا تحديدًا، تكمن خطورة المرحلة: أن تصبح سوريا طرفًا في نظام إقليمي جديد، مبني على التطبيع القسري، من دون أن تحصل على شيء، ومن دون أن يكون لديها خيار العودة.
بالختام ما يُطبخ اليوم في الكواليس ليس مسار سلام، بل مسار استسلام ناعم، يمر عبر غرف التفاوض السرّي، ويُروَّج له كفرصة إنقاذ. لكن الحقيقة أبسط وأقسى: “إسرائيل” لا تريد فقط إنهاء حالة الحرب، بل إلغاء كل إمكانية مستقبلية للمواجهة، حتى لو تغيرت الظروف.
تريد سوريا محايدة، خالية من السلاح، صامتة أمام احتلال الجولان، ومندمجة في خريطة إقليمية جديدة لا مكان فيها لحق، ولا ذاكرة فيها لمواجهة.
التطبيع بهذا الشكل، في ظل هذه الموازين، ليس خطوة إلى الأمام، بل نكسة بلا معركة. وكل تنازل اليوم سيُدفع ثمنه لاحقًا… لكن من دون القدرة حتى على الاعتراض.