علاقات تصدّعت وأخرى رمّمها الزلزال.. والبعض أصبحوا “خارج نطاق الخدمة!”

داما بوست – آلاء قجمي

“عذراً، الرقم الذي طلبته خارج نطاق الخدمة حاليا”، عبارة كنا نسمعها قبل كارثة الزلزال عند الاتصال بشخص عزيز استبدل خطه بخط جديد، أما بعد الكارثة بات ذلك الصوت يفطر قلبك إلى نصفين، لأن من تتصل به بات خارج خدمة الحياة.

اهتزت بنا الأرض مرات عدة، مرة عندما طالبك ذو حق بحقه وتجبّرت عليه، وأخرى عندما سيطر الطمع على قلبك وكنت تحتال على جارك، ومرة عندما داهمتنا جراثيم كورونا وقطعت خيوط التواصل بيننا حتى بتنا نخاف من بعضنا البعض، وهزّات كُثر من الخذلان وقطع العهود، إلا أن تلك الهزات لم يشعر بها سكان سوريا (وهنا لا نلجأ إلى التعميم بل نتحدث عن شريحة لا بأس بها من الناس)، لتصرخ الأرض من صميم أعماقها، قائلة: “لم أعد أحتمل ما تفعلون”، وهنا أدركنا بأن الأرض ليست مجرد طبقات صلبة نسير عليها، بل هي تشبهني وتشبهك تماماً عندما نصرخ في وجه من حولنا بعد أن ينفذ صبرنا لنقول لهم: “طفح الكيل”.

“طفح كيل” الأرض بما حمّلناها من طاقات سلبية، حتى انفجرت بوجهنا كلنا فراح الصالح منا قبل الطالح، ووقفنا مكتوفي الأيدي جاحظي العينين، ونحن نرى ما خسرنا من أحباء قبل أن نقول لهم بأفعالنا قبل أقوالنا، بأننا نحبهم، فذاك الذي خسر أخاه بعد أن جافاه لسنوات من أجل خلاف على ميراث، والآخر فُجع بوفاة صديقه قبل أن يصالحه.

ورغم الألم الكبير إلا أن مالم تستطع أن تفعله كل الأزمات التي مرت على السوريين، استطاع الزلزال أن يفعله، وكأن الأرض باهتزازها ألقت جميع السوريين بالعالم في قلب واحد ينبضون معاً لمواجهة الفاجعة، وكأن صعقة كهربائية أنعشت قلوبنا من جديد فركضنا لاحتضان من استبدلناهم بالخصام ليكون رفيق دربنا.

صديق ما بعد الموت!

في الحياة كل الاحتمالات مفتوحة، وجميع المفاهيم قابلة للتغيير، فمن كنا نقول له “صديق حتى الموت” بقي صديقاً ولكن بعد موته.

“صديق ما بعد الموت” قالها (أحمد 45 عاماً من محافظة اللاذقية) بعد أن خسر صديقه “علي” تحت ركام بيت جمع ضحكاتهم ولحظاتهم الحلوة والمرة لسنوات طويلة، إلى أن جاء شبح الخلاف وبخّر كل الصداقة التي جمعتهما، فقال لـ داما بوست”: “لا أصدق بأنني قضيت أكثر من عامين وأنا على خصام مع صديقي الذي أحسبه أخي، بسبب خلاف مالي وقع بيننا، ورفضت حينها المضي بأي طريق يؤدي إلى الصلح، طاعناً بعهدي مع صديقي بألا يفرقنا شيء إلا الموت، حتى أصبح صديقي بعد الموت، فأنا أزور قبره في الأسبوع أكثر من مرة منذ لحظة وقوع الزلزال، أبكي فراقه بحرقة، وأتحدث معه عن تفاصيل يومي”.

ويتابع “أحمد”: “لا أعتقد بأنني سأسامح نفسي، خاصة وأنني لم أرد على مكالمته قبل يوم من وقوع الكارثة وكأنه كان يشعر بأنه مفارقنا إلى الأبد”.

أما (رؤى 25 عاماً من جبلة) فقد حالت كل محاولاتها المتكررة لطلب الصلح مع ابنة عمها بالفشل، قائلة: “أعترف بأنني أخطأت بحق (مها) ابنة عمي وصديقتي المقربة وجارتي في الحي، ورغم محاولاتي الكثيرة لإصلاح ما فعلت، لكنها كانت ترفض الاستماع”.

وتابعت حديثها: “رأيت منزلها ينهار أمام عيني، وقفت أمام ركام منزلها أصرخ بأعلى صوتي علّها تعود للحياة وتسامحني، عاتبتها لأنها سمحت للموت أن يخطفها قبل أن تسمعني، مررت بحالة نفسية صعبة عقب رحيلها، وبدأت أعاني من حالات هلع شفيت منها من فترة قريبة، وإلى اليوم يختنق الكلام في حنجرتي عندما أتحدث عنها”.

من وجهة علم النفس، بينت الدكتورة في علم النفس الإرشادي المعرفي، غالية أسعيد لـ “داما بوست”، أن الإنسان من الممكن أن يتعرض لاضطراب نفسي يسمى “اضطراب ما بعد الصدمة” عُقب تجربة صادمة أو مأساوية، ويمكن أن يشمل هذا الاضطراب أيضاً فقدان شخص عزيز، مثل الخسارة المفاجئة لشخص كنت على خصام معه.

وبعد ذلك تتأزم الحالة الانفعالية والنفسية أكثر بالنسبة لهذا لشخص ويدخل في دوامة اللوم، ومن الممكن أن يعاني من صعوبة في التركيز والنوم، الكوابيس المتكررة، الانعزال الاجتماعي، وتكرار الزيارات إلى أماكن كانت تجمعه بالشخص المتوفي حتى يطلب منه السماح.

وتتابع: “إن الشخص الذي لا يستطيع مسامحة نفسه يحتاج الى جلسات إرشادية نفسية، حتى يستطيع الخروج من دائرة اللّوم التي من المفترض ألا تتجاوز الساعات في المواقف البسيطة، أما إذا كان المصاب كبيراً فقد تمتد إلى بضع أيام في الحالة الطبيعية”.

وشددت أسعيد على ضرورة عدم استمرار حالة الشعور بالذنب لفترة طويلة وذلك من خلال طلب المساعدة من الاختصاصي النفسي لتقديم الدعم والإرشاد والعلاج للتعامل مع مشاعر الذنب، لأن ما عدا ذلك من الممكن أن يتعرض الشخص لاضطرابات نفسية قد تصل إلى مرحلة القلق المعمم أو حالة من الهلوسة.

غضبٌ أقوى من الزلزال!

يتفوق غضب البشر على غضب الأرض في أحيان عدة، فربما يكون حجم الألم الذي تعرض له شخص من فرد آخر يفوق قدرته على التحمل، فلم تستطع كارثة الزلزال أن ترمم علاقة (ولاء 33 عاماً دمشق) بصديقة عمرها كما قالت، لأن الذي تم كُسر لا يعود كما كان سابقاً وإن تم ترميمه، تحكي لنا ولاء قصتها قائلة: “كانت بيت أسراري وصديقة الطفولة، ولكن حجم الألم الذي سببته لي فاق قدرتي على المسامحة، لدرجة أنني لم أعد أعرف نفسي، فعندما وقع الزلزال كانت صديقتي سلمى في حلب، وقضت ليال كثيرة في الشارع لأنها تخاف الصعود إلى منزلها المتصدع، ورغم ذلك لم أستطع الاطمئنان عليها بنفسي بل عرفت أخبارها عن طريق أصدقاء مشتركين”.

وتتابع: “بالطبع خفت من أن يصطادها الموت، ولكن رغم ذلك كان الغفران يجافيني، أعرف بأن العمر قصير والموت محيط بنا في أي لحظة، لكننا بشر ربما نسامح ضمناً ولكن من الصعب علينا أن نعيد الأمور كما كانت، وأحاسب نفسي دوماً لعدم قدرتي على المسامحة فأنا لست شخصية حقودة ولكن ما حصل بيننا جرحني كثيراً”.

يواجه الإنسان صعوبة في المسامحة ببعض الحالات، خاصة عند تعرضه لمصائب أو تجارب صعبة، وذلك يعود لمدى مرونة الإنسان في التعامل مع المواقف، فعدم القدرة على المسامحة لأسباب عدة، فقد يكون الألم العاطفي شديداً، أو ربما يكون الشخص خائفاً من التعرض للإساءة مرة أخرى، أو رغبته في رؤية العدالة تتحقق، وغيرها من الأسباب.

وأوضحت الدكتورة في علم النفس، قائلة: “أغلب الدراسات النفسية أكدت أن الإنسان يميل للفطرة الخيّرة التي خُلق عليها، باستثناء الحالات التي يكون فيها الإنسان متأثراً بالبيئة المنزلية التي تربى فيها والتي قد تكون قائمة على القسوة والعناد وعدم المسامحة، حيث يمكن للظروف والتجارب والتأثيرات الخارجية أن تؤدي إلى تطوير طباع مكتسبة تتعارض في بعض الأحيان مع الفطرة البشرية.

فالقدرة على المسامحة يمكن أن تتغير وتتطور مع مرور الوقت وذلك مساعدة الدعم النفسي والعاطفي والعمل الشخصي.

حياة أم لعبة “بلاي ستيشن”؟

ألعاب “البلاي ستيشن” تعطينا ما بين 3 إلى 5 أرواح حسب كل لعبة، حتى ننجز المهمة المطلوبة، وإن لم ننجح ستظهر لنا العبارة الشهيرة “Game over”، ونضطر آسفين للبدء من جديد ولكن بعد مدة من الوقت.

الأمر ذاته ينطبق على حياتنا فهي لعبة من ألعاب “البلاي ستيشن” ولكن بروح واحدة، وفرص عدة قد لا تكون كثيرة، إن لعبناها بشكل جيد انتقلنا إلى المرحلة الأخرى، وإن لم نفعل ستظهر لنا عبارة “Game over”، ولكن دون إعادة اللعبة.

(ذو الفقار”٥٠ عاماً” من مدينة جبلة) ذكّره الزلزال بأن لديه أخٌ أغلى من كنوز الأرض وما عليها، فروى لـ “داما بوست” قصته، قائلاً: “كنت من بين الأشخاص الذين غرقوا تحت الركام، كنت أصرخ بصوت عال وأنا في الأسفل، سامحني يا أخي، رجوت الله مراراً أن يبقي لي نبضاً واحداً حتى أعيد له حقه بعد خلاف كبير على الميراث استمر لسنوات، كل تفكيري حينها كان بأخي، حتى نسيت بأن أولادي غارقون معي تحت الركام”.

وأضاف: “كان أخي من بين الناس الذين أخرجوني من تحت الأنقاض رغم أني أكلت حقه، وحمدّت الله أنه مد بعمري حتى أعيد الحق لأصحابه”.

تمر في حياتنا مواقف كثيرة لا نستطيع قياس حجم أهميتها لأنها لا تخصنا وحدنا، بل تخص أطرافاً آخرين يشاركوننا القصة، التي مهما صغُر حجمها أو كبر هي دروس تعطينا إياها الحياة حتى نتعلم منها.

فتخبرنا (مروى “٣٠ عاماً” من حلب) بقصتها، قائلة: “ليلة الزلزال نام ابني ذو ٧ سنوات وهو يبكي لأنني وعدته أن أشتري له لعبة وخلفت بوعدي لأنه (لا يسمع الكلام)، هبط بنا المنزل و الحمدلله لم يصبنا مكروه، لكن ابني غاب عن الوعي من هول ما حدث، ولم أعد أعرف إن كان ميتاً أم على قيد الحياة”.

وتتابع: “في تلك اللحظة حمّلت نفسي المسؤولية لأنني تركت ابني ينام وهو يبكي بسبب لعبة، وبعد عام من الزلزال أحمد الله أنه أعطانا عمراً حتى لا أخلف بوعودي معه أو مع الآخرين”.

القصص التي استعرضناها سابقاً، هي قصص موجودة في حياتنا اليومية مع اختلاف السيناريوهات التي من الممكن أن نمر بها، ولكنها جميعها تصب في مكان واحد وهو “الإنسانية” التي نغفل عنها أحياناً ونخضع لتأثيرات مشاعرنا السلبية فننسى بأن من نعاديهم، كانوا مرآتنا في يوم من الأيام، ونطبّق مقولة: “صديق الأمس عدو اليوم”، متناسين بأن العمر لا يأتي سوى مرة في العمر، وبأننا من الممكن أن نصبح بأي لحظة “خارج نطاق الخدمة”.

تابعونا على فيسبوك تلغرام تويتر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار
وزير التجارة ‏الداخلية: مخزون القمح يكفي لأكثر من ‏عام.. التشدد باتخاذ أقصى العقوبات ‏للمحتكرين استقرار سعر غرام الذهب في السوق المحلي استقرار أسعار النفط قبل اجتماع "أوبك+" من واشنطن.. الملك عبدالله الثاني يؤكد رفضه كل ما يهدد أمن واستقرار سوريا ريال مدريد يتكبد الهزيمة الثانية في الليغا الحرارة حول معدلاتها وأمطار محلية خفيفة متوقعة على بعض المناطق أبرز المباريات العربية والعالمية اليوم الخميس في اليوم الـ426 للعدوان.. حملة اعتقالات واسعة تطال نابلس ليفربول يتعثر أمام نيوكاسل.. والسيتي يستعيد ذاكرة الانتصارات وزير الخارجية المصري يؤكد في محادثات مع نظيريه الإيراني والأميركي وقوف بلاده إلى جانب سوريا كوريا الديمقراطية تؤكد دعمها وتضامنها الكاملين مع سوريا تونس تندد بالهجمات الإرهابية شمال سوريا بضغط عشائري.. "قسد" تسمح للوافدين العرب بالدخول لمناطقها مصدر في وزارة الكهرباء يبين الوضع الكهربائي في محافظة حلب بعد دخول الإرهابيين إليها وزير الخارجية لـ قائد قوة الأمم المتحدة بالجولان: نرفض الإجراءات غير القانونية للاحتلال المالكي يدعو للوقوف مع سوريا بوجه الإرهاب: سقوطها يعني استباحة المنطقة بأكملها "السادة المعامرة الأشراف" بالحسكة: الالتفاف حول الجيش في حربه ضد المجاميع الإرهابية مجلس الشعب يقر مشروع قانون موازنة 2025 قوائم لاهاي السوداء وشبح الاعتقال يطاردان جنود الاحتلال وقادتهم عضو المكتب التنفيذي بريف دمشق لداما بوست: حوالي 40 ألف وافد من حلب وحماة السـورية للطيران: معالجة كافة تذاكر سفر الوافدين من محافظة حلب بكل مرونة مدير النقل الطرقي يتحدث لـ "داما بوست" عن الاجراءات التي تم اتخاذها فيما يتعلق بنقل حلب عشائر دير الزور برسالة للتحالف الأميركي: لسنا تنظيم "داعش".. وسنتعامل مع أي معتد مصدر في وزارة التموين لـ "داما بوست": المخابز تعمل بكامل طاقتها في جميع المناطق دون الحاجة لأوراق ثبوتية.. التربية والتعليم العالي: يمكن للطلبة الوافدين من حلب الالتحاق بالمدارس وا...