أسواق “البالة” في دمشق: من خيار للفقراء إلى ملاذ للطبقة الوسطى
في شوارع دمشق وأحيائها الشعبية، لم تعد محال الألبسة الأوروبية المستعملة (البالة) أسواقًا هامشية تقتصر على ذوي الدخل المحدود، بل تحولت إلى جزء ثابت من المشهد التجاري اليومي، وملاذ لشرائح اجتماعية متزايدة تبحث عن لباس مقبول الجودة بأسعار يمكن تحمّلها، في ظل الارتفاع الحاد لأسعار الألبسة الجديدة وتراجع القدرة الشرائية.
تضخم مستمر ورواتب عاجزة:
يعاني السوريون من موجات تضخم متلاحقة طاولت مختلف السلع، مع استمرار ارتفاع الأسعار رغم الوعود الحكومية بتحقيق استقرار نقدي. ومع هذا الواقع، باتت الرواتب غير قادرة على تغطية الاحتياجات الأساسية، ما دفع كثيرين إلى البدائل الأرخص، وفي مقدمتها أسواق البالة.
كيف تصل البالة إلى دمشق؟
في أحد أزقة حي الإطفائية، يوضح تاجر الألبسة المستعملة حسام إدريس لـ “العربي الجديد” أن معظم البضائع تصل إلى دمشق عبر مسارات تجارية غير مباشرة.
ويقول إن الألبسة تُشحن من أوروبا إلى تركيا، ثم تُنقل إلى شمال سوريا حيث يتم فرزها وتصنيفها، قبل إرسال جزء منها إلى دمشق وريفها، بينما يأتي جزء آخر عبر لبنان. ويؤكد أن الأسعار تختلف حسب الحالة والنظافة ونوع القطعة، لكنها تبقى أقل بكثير من أسعار الألبسة الجديدة.
انتشار واسع بعد سقوط النظام السابق:
خلال العام الجاري، وبعد سقوط النظام السابق، شهدت أسواق البالة توسعًا ملحوظًا في دمشق وريفها، من برزة وركن الدين إلى جرمانا وصحنايا، إضافة إلى البسطات المؤقتة التي تنتشر في أيام محددة من الأسبوع.
كما انتقل بيع الألبسة المستعملة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تعرض بعض السيدات القطع من منازلهن مع الاتفاق على أماكن التسليم.
أنواع البالة: جديدة ومستعملة:
يشرح إدريس أن سوق البالة ينقسم إلى فئتين رئيسيتين:
1- ألبسة جديدة غير مستعملة مصدرها تصفيات محال ومصانع أوروبية، وهي الأعلى سعرًا.
2- ألبسة مستعملة فعليًا، لكنها الأكثر طلبًا.
ويضيف: “لم يعد الناس يبحثون عن الماركات، بل عن قطعة تدوم موسمًا أو موسمين دون أن تتلف”.
لم تعد حكرًا على الفقراء:
في منطقة الشيخ سعد بالمزة، تقول مروة خانكان، موظفة في شركة خاصة، إنها لم تكن من زبائن البالة سابقًا، لكنها اليوم تشتري منها عن قناعة.
وتوضح خلال حديثها لـ “العربي الجديد” أن معطفًا اشترته بـ50 ألف ليرة سورية يعادل من حيث الجودة معاطف جديدة يتجاوز سعرها 500 ألف ليرة، مضيفة: “وفّرت هذا المبلغ لأدفع إيجار البيت”.
أما عامل البناء صالح شدود من ريف دمشق، فيؤكد أن البالة باتت حلًا لا غنى عنه لتأمين لباس أطفاله الأربعة، موضحًا أن شراء لباس جديد لطفل واحد قد يستهلك نصف راتبه الشهري.
زبائن من مختلف الطبقات:
يشير تجار إلى أن زبائن البالة اليوم ينتمون إلى طبقات اجتماعية مختلفة، بما في ذلك ميسورو الحال الباحثون عن قطع مميزة أو علامات تجارية عالمية بأسعار أقل.
وتقول عاملة في متجر للبالة إن بعض السيدات يطلبن فتح الطرود الجديدة لاختيار القطع الأفضل فورًا، وغالبًا ما ينتمين إلى طبقات ميسورة.
فشل السوق التقليدية وصعود البديل:
يرى الخبير الاقتصادي منذر حمدان أن انتشار البالة يعكس فشل السوق التقليدية في تلبية احتياجات المستهلكين. ويشير إلى أن الألبسة المستعملة كانت تُعدّ خلال سنوات النظام السابق من السلع الممنوعة أو “المهرّبة”، بذريعة حماية الصناعة المحلية، رغم عجز هذه الصناعة عن تقديم بدائل جيدة وبأسعار مناسبة.
ويضيف أن منع البالة كان قرارًا ريعيًا، فرضت خلاله ضرائب ورسوم مرتفعة، مع ملاحقة التجار، رغم أنها كانت الملاذ الوحيد لذوي الدخل المحدود.
دور اجتماعي في مواجهة التضخم:
يؤكد حمدان أن عودة البالة اليوم هي عودة طبيعية لسوق قديم فرضها الضغط المعيشي وغياب البدائل، مشددًا على أن هذه الأسواق تلعب دورًا اجتماعيًا مهمًا في تخفيف أثر التضخم، عبر إعادة تدوير الاستهلاك وتمكين الأسر من توجيه دخلها المحدود نحو الغذاء أو التعليم.
البالة مرآة للتحولات الاجتماعية:
بين رفوف المحال وبسطات الشوارع، تعكس أسواق البالة في دمشق تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة. لم تعد البالة وصمة فقر أو عيبًا اجتماعيًا، بل خيارًا عقلانيًا فرضته الظروف القاسية.
وفي مدينة اعتادت التكيّف مع الأزمات، يواصل الدمشقيون البحث عن حلول يومية تحفظ الحد الأدنى من الكرامة المعيشية، حتى لو جاءت من حقائب ألبسة قطعت آلاف الكيلومترات قبل أن تستقر على شمّاعات محال دمشق.
أرقام تعكس عمق الأزمة الاقتصادية:
بحسب الخبير الاقتصادي إيهاب اسمندر، بلغ التضخم التراكمي في سوريا بين 2011 و2024 نحو 16 ألف في المئة، نتيجة تراجع الإنتاج المحلي، وانخفاض الصادرات إلى 6% من مستوياتها قبل الحرب، واتساع العجز التجاري إلى 35% من الناتج المحلي.
كما تجاوزت نسبة الفقر 90%، مع خروج أكثر من مليوني طفل من المدارس للعمل، في وقت لم يعد فيه الحد الأدنى للأجور يغطي سوى خمس سلة الغذاء.
إقرأ أيضاً: الوضع الاقتصادي في سوريا 2025: انهيار، تحديات، وفرص إعادة الإعمار
إقرأ أيضاً: أسواق البالة في سوريا: متنفس الفقراء والأغنياء على حد سواء!