“أطيعوني ما أطعت الله فيكم”.. جدل واسع حول خطاب الطاعة في سوريا
أثار خطاب الرئيس الانتقالي أحمد الشرع في المسجد الأموي جدلاً لافتاً، بعد اعتماده لغة ذات طابع ديني تقوم على مفهوم “الطاعة”، وإعلانه أن “لن يقف في وجهنا أحد”. وقد فتح ذلك الباب أمام نقاش واسع حول طبيعة الشرعية السياسية في سوريا، والعلاقة بين الديني والدستوري في مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق.
جاء خطاب الشرع في ذكرى الثامن من كانون الأول/ديسمبر، تاريخ انهيار نظام الأسد، ما دفع إلى تساؤلات حول اتجاهات السلطة الجديدة: هل تتجه البلاد نحو نموذج دولة مدنية حديثة، أم نحو إعادة إنتاج أنماط حكم تقوم على تفويض ديني أو وصاية سياسية؟
الطاعة أم سيادة القانون؟
قال الشرع في خطابه: “أيها السوريون أطيعوني ما أطعت الله فيكم.. فوالله لن يقف في وجهنا أحد”، مضيفًا: “سنواجه التحديات، ونعيد سوريا قوية بطاعة الله ونصرة المستضعفين والعدالة بين الناس”.
هذه العبارات اعتبرها منتقدون محاولة لتأسيس شرعية ترتكز على مفاهيم دينية أكثر من استنادها إلى دستور أو عقد اجتماعي، في بلد عانى لعقود من تداخل بين السلطة والخطاب المقدّس.
المحامي والحقوقي ميشال شماس رأى أن الخطاب “لا يعكس توجهاً نحو دولة حديثة، بل يميل إلى ذهنية تتجاوز المساءلة، وتستند إلى تفويض غير قابل للقياس”. وأكد أن بناء الدولة “يقوم على المواطنة والمؤسسات القادرة على محاسبة الحاكم، لا على دعوات الطاعة”.
بين أخلاق الحاكم ووظائف الدولة
الكاتب السوري منصور المنصور اعتبر أن عبارة “أطيعوني ما أطعت الله فيكم” تستحضر نمطاً من العلاقة بين “الخليفة والرعية”، لا بين مؤسسات الدولة الحديثة ومواطنيها. وقال إن ما يحتاجه السوريون اليوم “هو دولة عادلة واقتصاد فعّال ومؤسسات تعمل، لا خطابات ترتكز إلى تدين الحاكم”.
وأضاف أن المواطن “لا يبحث عن مسؤول يكثر من التصريحات الأخلاقية بقدر ما يبحث عن نظام يضمن العدالة، وقضاء مستقل، وجيش يحمي المدنيين”.
هذه المقارنة بين الخطاب الديني والخطاب المدني تسلط الضوء على التوتر بين مطلب المحاسبة الحديثة وبين مفاهيم الطاعة التي قد تختزل دور المواطن في الامتثال بدل المشاركة.
بين البيعة والعقد الاجتماعي
الانتقادات التي أُثيرت ركزت على خطورة العودة إلى لغة الطاعة في بلد دفع ثمناً باهظاً للخروج من الحكم الاستبدادي. فالدولة التي تُمنح فيها الشرعية عبر “طاعة الله” لا عبر المؤسسات، قد تعيد إنتاج نمط سلطوي حتى وإن تغيّرت الأسماء.
ويرى شماس أن استخدام منبر ديني لطرح خطاب سياسي يشكّل “عودة إلى أدوات حكم لم تعد مقبولة في دولة يفترض أن تُبنى على أسس مدنية”. ويشدّد على أن سوريا اليوم “بحاجة إلى دستور فعّال، وقضاء مستقل، وصحافة حرة، وبرلمان قادر على المساءلة”.
من يملك حق المحاسبة؟
يطرح الخطاب القائم على الطاعة سؤالاً محورياً: كيف يمكن للمواطن أن يعرف أن الحاكم “أطاع الله في الناس”؟ ومن هي الجهة المخوّلة مساءلته؟ غياب المؤسسات الفاعلة يجعل هذا النوع من الشرعية مفتوحاً على تأويلات واسعة، وقد يضعف أدوات المحاسبة الحديثة لصالح معايير دينية لا تمتلك جهة مستقلة للفصل فيها.
وعندما تُستبدل آليات الرقابة القانونية بمفاهيم فضفاضة كـ“طاعة الله”، يصبح الخطر قائماً بإعادة صياغة العلاقة بين الحاكم والمواطن بشكل يعيد إنتاج الهرمية القديمة، حيث يصبح الحاكم في موقع الخصم والحَكَم معاً.
نقاش يتجاوز اللغة
الجدل الذي أعقب خطاب الشرع لا يتعلق بمفردات أو صيغ لغوية فقط، بل يمسّ جوهر النقاش حول طبيعة الدولة التي يسعى السوريون إلى بنائها: هل هي دولة مؤسسات وقانون، أم دولة تستند إلى شرعية طاعة دينية؟ دولة يُحاسَب فيها الرئيس، أم دولة يُطلب من مواطنيها التسليم بقرارات الحاكم باعتبارها جزءاً من واجب ديني؟
هذه الأسئلة تبقى مفتوحة في ظل مرحلة انتقالية شديدة الحساسية، ومع بحث السوريين عن نموذج حكم يمنع تكرار تجارب الماضي، ويضمن أن تكون السلطة خاضعة للقانون لا فوقه.