عام ما بعد الأسد يكشف هشاشة الأمن… وأزمتا الساحل والسويداء أبرزها
أصدرت مجموعة الأزمات الدولية دراسة موسعة تناولت واقع سوريا بعد عام من سقوط نظام بشار الأسد، مركّزة على الاختلالات الأمنية التي ظهرت بقوة خلال العام 2025، رغم ما حققته الحكومة الانتقالية من اختراقات سياسية خارجية. وتستند الدراسة إلى أكثر من 135 مقابلة ميدانية داخل البلاد ومع نحو 40 مسؤولاً دولياً وخبيراً سورياً.
وتخلص الدراسة إلى أن نجاح سوريا الدبلوماسي في الخارج لم يرافقه استقرار داخلي مماثل، وأن أزمتي الساحل والسويداء شكّلتا إنذاراً مبكراً لفشل مقاربة الأمن والتمثيل وإدارة التنوع في المرحلة الانتقالية.
نجاحات خارجية… وواقع أمني هش
توضح الدراسة أن سقوط النظام السابق في ديسمبر/كانون الأول جرى على يد هيئة تحرير الشام وفصائل متحالفة معها، أعقبته حملة واسعة لإعادة دمج سوريا في المشهد الدولي. فقد حصلت الحكومة الانتقالية على دعم دبلوماسي ملحوظ، من الجمعية العامة للأمم المتحدة وصولاً إلى البيت الأبيض، إضافة إلى رفع تدريجي للعقوبات ودعم مالي خليجي.
وفي الداخل، تجنبت الحكومة الجديدة فرض توجهات أيديولوجية خشية ردود الفعل المجتمعية. إلا أن هذا المسار اصطدم – وفق التقرير – بضعف بنيوي في إدارة السلطة، إذ بقيت القيادة الأمنية الفعلية بيد دائرة ضيقة من هيئة تحرير الشام، فيما لم تنجح عملية دمج الفصائل في تشكيل جيش منضبط وموحد.
كما استمرت جهات مسلحة متعددة خارج سيطرة الدولة، بينها بقايا النظام السابق، ومجموعات درزية، وقوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي، ما جعل السيطرة المركزية ضعيفة ومجزأة.
تآكل الثقة بين السلطة والأقليات
ترى الدراسة أن قرارات الحكومة الانتقالية ساهمت في تعزيز الشعور بعدم الأمان لدى بعض المكونات، خصوصاً العلويين والدروز. ومن أبرز تلك القرارات إقالة نحو 500 ألف عنصر من الأجهزة الأمنية السابقة، معظمهم من العلويين، وهو ما أدى إلى خلق كتلة كبيرة من العسكريين المدربين خارج أي إطار مؤسسي.
وترافقت هذه السياسات مع تصاعد حوادث الخطف والقتل على الهوية، خصوصاً في حمص وحماة، لتذكّر بموجات الانتقام المتبادلة خلال سنوات الحرب، وتعمّق القطيعة بين المجتمع والسلطة الجديدة.
أحداث الساحل: تمرد واسع ومجازر
انطلقت شرارة الأزمة الأولى في الساحل يوم 6 مارس/آذار حين نفذت مجموعات تابعة لبقايا الفرقة الرابعة والفرقة 25 هجمات منسقة ضد مواقع حكومية في جبلة وبانياس. وقد تحركت مجموعات من العناصر السابقين تحت مسمى “المجلس العسكري لتحرير سوريا”.
وفوجئت الحكومة بحجم التمرد، فأرسلت قوات متنوعة من هيئة تحرير الشام وفصائل حليفة ثم وحدات من الجيش الوطني السابق. ومع دخول مجموعات غير منضبطة إلى الميدان، خرجت العمليات عن السيطرة، وجرى تنفيذ عمليات قتل ونهب في قرى علوية.
وتقدّر التحقيقات أن ما بين 1,000 و1,700 مدنياً علوياً قُتلوا خلال ثلاثة أيام، ونزح نحو 40 ألفاً إلى لبنان. وعلى الرغم من تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، شعر العلويون بأن التقرير الرسمي حاول تخفيف المسؤولية عن الحكومة، ما أوجد فجوة ثقة عميقة.
أزمة السويداء: الحساسية المتفاقمة
في الجنوب، كانت التوترات تتصاعد تدريجياً. فقد رأى الدروز، الذين حافظوا على درجة من الحكم الذاتي خلال الحرب، أن الحكومة الانتقالية تعاملت معهم بنهج فوقي، من خلال استبعاد القيادات المحلية من الحوار الوطني وتغيير مسؤولين دون تشاور.
ومع مجازر الساحل، ازدادت مخاوف الدروز من إمكانية تكرار المشهد. وتفاقم التوتر بعد انتشار تسجيل صوتي مسيء للنبي نُسب خطأً لشخصية درزية، ما أدى إلى هجمات من فصائل سنية. واتسعت الاشتباكات لتشمل الطريق بين دمشق والسويداء.
وفي ذروة التوتر، دخلت “إسرائيل” على خط الأزمة، ما أدخل الأزمة في إطار إقليمي شديد الحساسية. وفي يوليو/تموز، أدى تدخل حكومي واسع لوقف الاشتباكات بين الدروز والبدو إلى مقتل أكثر من ألف درزي ونزوح نحو 200 ألف شخص.
وترى الدراسة أن تعامل دمشق مع الأزمة عمّق الشرخ، إذ اعتمدت مقاربة قمعية بدل تهدئة الهواجس المحلية.
جذور مشتركة للأزمات
تستخلص الدراسة أن أزمتي الساحل والسويداء كشفتا مشكلات هيكلية أبرزها:
-
ضعف السيطرة المركزية على المجموعات المسلحة
-
دمج فصائل متباينة دون تفكيك هياكلها القديمة
-
نقص حاد في القوى الأمنية المدربة
-
اقتصاد منهار وانتشار السلاح
-
غياب التمثيل السياسي الحقيقي للأقليات
-
إرث طويل من المجازر والتهجير والانتهاكات
وترى الدراسة أن تهميش العلويين والدروز والأكراد خلق شعوراً بأن النظام الجديد يعيد إنتاج الإقصاء ذاته الذي كان سائداً في عهد الأسد.
تتوقع الدراسة أن تؤدي هذه الاضطرابات إلى توتير العلاقة بين دمشق والإدارة الذاتية الكردية، التي تعتبر الاحتفاظ بقواتها ضمانة لوجودها. كما أن استمرار الاعتماد على الحلول الأمنية سيؤدي – وفق التقرير – إلى فقدان الثقة الشعبية وتغذية سرديات النظام السابق حول انهيار الدولة.
توصيات لإعادة بناء الأمن
تدعو مجموعة الأزمات الدولية إلى اعتماد نهج أمني مختلف، يقوم على:
-
إعادة هيكلة الجيش وفرض انضباط واضح على الفصائل المدمجة
-
إبعاد الوحدات غير المنضبطة عن المناطق الحساسة
-
تدريب قوات الأمن العام على إدارة التوترات والتواصل المجتمعي
-
إشراك المجتمعات المحلية في ترتيبات الأمن، خصوصاً في الساحل والسويداء
-
محاسبة شفافة لجميع المنتهكين بغض النظر عن الانتماء
-
دعم برامج اقتصادية وخدمية لمعالجة جذور الاحتقان
-
تقديم تطمينات سياسية واضحة للأقليات حول تمثيلها في الدولة الجديدة
خلاصة
تشير الدراسة إلى أن عام 2025 مثل اختباراً حساساً لسوريا ما بعد الأسد: فبينما تحقق البلاد تقدماً خارجياً لافتاً، يبقى الداخل مثقلاً بأزمات أمنية ومجتمعية عميقة. وتؤكد أن الاستقرار لن يُنجز بالقوة وحدها، بل عبر بناء شراكة وطنية حقيقية يشعر عبرها كل مكوّن – خصوصاً الأقليات – بأن الدولة الجديدة دولة جامعة لا إقصائية.
وبين فرصة تاريخية لإعادة البناء وهاوية فوضى جديدة، ترى الدراسة أن خيارات دمشق في العام المقبل ستكون حاسمة.
اقرأ أيضاً:توتر في ريف حمص بعد استفزازاتمؤيدي السلطة بالتزامن مع حشد مسيرات في الساحل