الجنوب السوري بين الترتيبات الأمنية واحتمالات الانفجار
يتحوّل الجنوب السوري تدريجياً إلى واحدة من أكثر الساحات حساسية في المشهد السوري، ليس فقط باعتباره خط تماس بين أطراف متعددة، بل بوصفه منطقة تتقاطع فيها الحسابات المحلية مع مشاريع إقليمية ودولية. محافظات درعا والقنيطرة والسويداء لم تعد حدوداً جغرافية فحسب، بل مناطق تشكّل كل خطوة فيها جزءاً من معادلة معقدة قد تعيد رسم موازين القوى داخل سوريا وفي محيطها.
السلطة السورية الانتقالية، برئاسة أحمد الشرع، تتعامل مع ملفات الجنوب ضمن مقاربة تضع استمرارية الدولة في مقدمة الأولويات. الشرع، وفق مصادر سياسية، يعتمد نهجاً يقوم على تثبيت السيطرة وبناء ترتيبات مدروسة مع القوى الفاعلة، بما في ذلك موسكو وتل أبيب، سعياً لتجنب انفلات أمني قد يمتد نحو العاصمة. وتعتبر دوائر سياسية أن قبول دمشق بإعادة انتشار روسي جنوباً، أو الدخول في تفاهمات أمنية غير مباشرة مع “إسرائيل”، يدخل ضمن منطق “إدارة المخاطر” أكثر مما يعكس تغييراً جذرياً في التموضع السياسي.
الأحداث المتسارعة في الجنوب، من اشتباكات محلية بين مجموعات بدوية ودرزية، إلى عمليات الاغتيال، وصولاً إلى التوغلات والانتهاكات الإسرائيلية داخل عدة قرى سورية، دفعت السلطة الانتقالية إلى السعي نحو تفاهمات أمنية تضمن الحد الأدنى من الاستقرار. وتشير مصادر ميدانية إلى أن التوتر الراهن كان أحد العوامل التي عجّلت ببدء حوار أمني مع “الجانب الإسرائيلي” لضبط الحدود ومنع توسع العمليات العسكرية، خصوصاً مع القلق من انتقال التصعيد إلى محيط دمشق.
في المقابل، ترى “إسرائيل” في الجنوب السوري منطقة حيوية لأمنها الاستراتيجي. التحركات العسكرية الأخيرة في محيط القرى الحدودية وعمليات التثبيت الميداني تُقرأ إسرائيلياً كخطوات تهدف لإعادة صياغة الواقع الحدودي ومنع أي تغيّر مفاجئ في موازين القوة. ويعتبر مراقبون أن “تل أبيب” تتعامل مع الجنوب باعتباره جزءاً من شبكة أمنية أوسع تمتد من الجولان إلى خطوط النفوذ في عمق الأراضي السورية.
وفي سياق موازٍ، تتوسع أشكال التعاون بين بعض القيادات الدرزية في السويداء و”الجهات الإسرائيلية”، في ظل غياب ترتيبات مركزية واضحة من دمشق. ورغم أن هذه العلاقة كانت محدودة في السنوات الماضية، إلا أنها أخذت منحى أكثر تنظيماً مؤخراً، مع تبادل معلومات تتعلق بالمناطق الحدودية ومسارات التحرك. مصادر محلية تشير إلى أن هذا التواصل بات يُستخدم “لضمان حماية المجتمعات المحلية”، في الوقت الذي تحاول فيه القوى الدرزية تعزيز نفوذها الداخلي في ظل هشاشة الوضع الأمني.
أما على الصعيد المحلي، فالجنوب يعيش حالة توتر مستمر، تتجلى في اشتباكات متفرقة، وحوادث اغتيال، وتحركات مسلحة متبادلة. هذا الواقع يجعل أي ترتيبات ميدانية عرضة للاهتزاز في أي لحظة، ويضع السلطة الانتقالية أمام اختبار صعب يتعلق بقدرتها على فرض سيادة الدولة في منطقة تشهد تعدد ولاءات وتقاطعات نفوذ خارجية.
إقليمياً، يراقب الفاعلون الرئيسيون التطورات بحذر. تركيا تنظر بعين القلق لأي تفاهمات “سورية–إسرائيلية” يمكن أن تُقرأ كتحوّل في موازين القوة داخل الملف السوري. أما روسيا، فرغم تراجع حضورها الميداني مقارنة بسنوات سابقة، ما تزال لاعباً أساسياً في محاولات الحفاظ على توازن يمنع انفجاراً جديداً في الجنوب. وفي الخلفية، تظهر القوى الدولية الكبرى التي تسعى إلى منع انزلاق المنطقة إلى مواجهة مفتوحة، بينما تعمل في الوقت ذاته على إعادة رسم شكل الدولة السورية ضمن ترتيبات سياسية وأمنية أوسع.
التطورات في الجنوب السوري أصبحت، وفق محللين، اختباراً لمعادلة “البقاء والاستقرار” التي تحاول السلطة الانتقالية ترسيخها. التفاهمات الأمنية، وإدارة الحدود، والعلاقة مع القوى المحلية، كلها ملفات تتداخل في منطقة مرشحة لأن تكون مفتاح الحل أو بوابة لتصعيد أكبر. فالمعادلة اليوم لا تنحصر في الداخل السوري فقط، بل تشمل شبكة أوسع من المصالح المتشابكة تمتد من تل أبيب إلى أنقرة وموسكو، مروراً بكل القوى التي تراقب الجنوب باعتباره مؤشراً على شكل سوريا المقبلة.
في المحصلة، يظل الجنوب السوري مساحة متحركة يصعب تثبيت معادلاتها. استقرار المنطقة قد يفتح الباب أمام ترتيبات أوسع داخل سوريا، بينما أي خطأ في الحسابات أو تفلت أمني قد يتحول إلى شرارة توسّع الصراع خارج حدوده الحالية. وبين هذين الاحتمالين، تتحرك السلطة الانتقالية والقوى الإقليمية ضمن مساحة ضيقة يحكمها الترقب والحذر، في انتظار ما ستؤول إليه التطورات على الأرض.
اقرأ أيضاً:مجزرة المدنيين في بيت جن… تصعيد جديد ينذر بانتهاكات جسيمة