لم تكن الجملة التي ظهرت بخط أحمر على شاشة المفاضلة—”لم يتم قبولك في أيٍّ من رغباتك ضمن هذه المفاضلة”—مجرد نتيجة إلكترونية عابرة بالنسبة لسندس، العائدة من تركيا بعد سنوات طويلة من اللجوء. تلك العبارة أنهت شهوراً من الانتظار وبددت آخر آمالها باستكمال تعليمها الجامعي في بلدها، كما فعلت مع آلاف الطلاب السوريين العائدين، الذين وجدوا أنفسهم خارج أسوار الجامعات السورية رغم رغبتهم بالعودة إلى مقاعد الدراسة.
على امتداد سنوات التهجير، لم يفقد ملايين السوريين بيوتهم وحسب، بل فقدوا أيضاً حقهم في تعليم مستقر. ورغم سقوط النظام السابق الذي كان أحد الأسباب الأساسية لابتعادهم، لا تزال فئة كبيرة من العائدين تصطدم اليوم بجملة من الشروط والمعايير الجامعية التي لا تراعي تجربتهم في اللجوء، ما يفاقم شعورهم بالإقصاء ويعمّق الفجوة التعليمية والاجتماعية التي خلفتها الحرب.
سندس.. حلم مؤجّل بين بلدينغادرت سندس ريف إدلب عام 2013 وهي في الثامنة من عمرها، هرباً من تهديدات أمنية دفعت عائلتها للنزوح إلى تركيا. هناك أكملت تعليمها ووصلت إلى مرحلة الثانوية، ثم حصلت على مجموعٍ مكّنها من دخول كلية الصيدلة في جامعة “إينونو”. لكن كلفة التخصص المرتفعة دفعتها للالتحاق بكلية التمريض. ومع عودة عائلتها إلى سوريا بعد التغيرات السياسية الأخيرة، ضحّت الأسرة بمستقبلها الجامعي في تركيا على أمل أن تجد فرصة جديدة في بلدها.
غير أن نتائج المفاضلة السورية الأخيرة جاءت صادمة لها، إذ لم تُقبل لا في الجامعات الحكومية ولا حتى الخاصة، بسبب معدلات قالت إنها “غير منطقية” بالنسبة للطلاب العائدين. مشهد مشابه تكرر لدى آلاف الطلاب على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انتشرت منشورات توثق رفض قبولهم رغم امتلاكهم شهادات وتعليم جيد خارج سوريا.
ماريا.. شهادات مكرّمة هناك وغير معترف بها هنابعد إنهاء دراستها في جامعة إسطنبول بتقدير عالٍ في تخصص “تنمية الطفل”، استعدت ماريا للتقديم للدكتوراه في سوريا، لكنها فوجئت بقائمة معايير تفضّل خريجي الجامعات السورية حديثي التخرج، وتمنح نقاطاً إضافية لمن درس في الجامعة نفسها التي يتقدم إليها الطالب. تقول إن هذه الشروط التي تبدو “إدارية” في دول مستقرة، تتحول في السياق السوري إلى حاجز يعاقب الطلاب الذين اضطروا للجوء أو الانقطاع عن الدراسة.
ومع ذلك، حاولت ماريا التقديم لمرحلة الماجستير، لكنها اصطدمت برفض معادلة شهادتها لأن تخصصها “غير مطابق” لتوصيف المقررات السورية، رغم تفوقها في تركيا. بذلك خسرَت فرصتها في متابعة التعليم داخل بلدها.
أحمد.. سنوات من الكفاح تنتهي بعبارة: لا مكان لك هناهرب أحمد من منبج عام 2015 إثر هجوم تنظيم “داعش”، وعاش سنوات قاسية في تركيا متنقلاً بين الأعمال المرهقة قبل أن يتمكن من دراسة الثانوية ثم امتحان الطلاب الأجانب (YÖS)، محققاً العلامة الكاملة. ورغم رغبته بدخول كلية الطب، اختار طب الأسنان لتوفير الوقت.
لكن الجمع بين الدراسة والعمل أثقل كاهله واضطر لترك الجامعة. وبعد سقوط النظام السابق، ظنّ أن العودة إلى سوريا ستفتح له باب التعليم مجدداً، لكنه اصطدم بقرار وزارة التعليم العالي رقم 319 لعام 2025، الذي يمنع الطلاب في التخصصات الطبية من الانتقال إلى الجامعات الحكومية السورية، ويشترط معدلات ثانوية لا تنطبق على نظام القبول التركي أساساً.
أحمد يرى أن الوزارة “أغلقت الباب” أمامه، ويقارن تجربته بتجربة تركيا التي أتاحت للطلاب السوريين التعليم المجاني لسنوات، بينما بلده اليوم “يقصيه”، حسب قوله.
وزارة التعليم: لا نُجبر على تغيير القواعدتواصل مجموعة من الطلاب مع وزارة التعليم العالي لمحاولة تعديل قواعد القبول والنقل، لكن معاون الوزير لشؤون الطلاب، عبد الحميد الخالد، قال إن “المعايير ثابتة” وإن الوزارة غير ملزمة بتلبية مطالب الطلاب، مؤكداً أن “من حصل على معدل منخفض في الثانوية لن يدخل فروعاً طبية لمجرد أنه درس في الخارج”. كما أكد عدم اعتراف الوزارة بامتحان “YÖS” أو بآليات المعادلة الأميركية، مضيفاً: “الطلاب عليهم أن يلائموا القرارات، وليس العكس”.
وعن التأخر في إعلان شروط النقل، قال الخالد إن الوزارة “استعجلت” الإعلان لخدمة الطلاب، رغم أن الإعلان جاء عملياً بعد انتهاء التسجيل في غالبية الجامعات التركية.
سياسات تُعمّق الفجوة المجتمعيةلم تقف آثار هذه السياسات عند حدود القبول الجامعي، إذ انعكست على النقاشات المجتمعية أيضاً. ففي سجل من التعليقات على مواقع التواصل، اتهم بعض طلاب الداخل نظراءهم في الخارج بالحصول على فرص “أسهل”، بينما يرى طلاب المهجر أنهم يُحاسبون بظروف لا يد لهم فيها.
هذه الانقسامات، وفق مختصين، هي نتيجة مباشرة لسياسات تعليمية غير تكافؤية تزيد الشرخ بين فئات المجتمع، بدل أن تعيد دمج الطاقات السورية ضمن إطار وطني جامع.
نزيف العقول مستمرخيبة الطلاب لا تتوقف عند حد الرفض الجامعي، بل تتجاوزها إلى إعادة النظر في فكرة العودة إلى سوريا أصلاً. أحمد، مثلاً، قرر البقاء خارج البلاد قائلاً: “لا مكان لي في وطن يدار بهذه العقلية”. أما ماريا فتفكر في متابعة دراستها عبر برامج خارجية أو الهجرة مرة أخرى.
تشير مؤشرات دولية إلى أن سوريا سجلت 7.70 نقاط في مؤشر “هجرة العقول” لعام 2024، وهي إحدى أعلى النسب في المنطقة، ما يعكس عمق التحديات التي تعيق إعادة بناء الكفاءات السورية.
قصص سندس وآلاف الطلاب العائدين تكشف عن حاجة ملحة لإصلاحات تعليمية تراعي خصوصية المهجرين وظروفهم، وتمنحهم فرصة عادلة لاستعادة حقهم في التعليم، لا أن تتحول العملية التعليمية إلى عائق جديد يقف بينهم وبين وطن يتطلعون للعودة إليه.