هطولات دون أثر حاسم: قراءة في الموسم الزراعي والمياه في سوريا

رغم استمرار الهطولات المطرية خلال الموسم الحالي، والتحسن النسبي في كميات الأمطار المسجلة مقارنة ببداية الموسم، لم ينعكس هذا التحسن بصورة واضحة على الواقع الزراعي في سوريا، وسط مؤشرات على اختلال توزيع الهطولات وتغير نمطها الزمني والجغرافي.

وتظهر بيانات رسمية صادرة عن وزارة الزراعة أن نسب الهطل في بعض المناطق تجاوزت المعدلات السنوية المعتادة، إلا أن هذا الارتفاع لم يترجم إلى مردود زراعي ملموس، نتيجة عدم انتظام الأمطار وتفاوت توزعها بين المناطق، الأمر الذي حدّ من فائدتها للمحاصيل، وترك تأثيرات متباينة بين منطقة وأخرى.

تغير نمط الأمطار وتأثيره الزراعي

الخبير التنموي أكرم عفيف أوضح، في حديث لموقع “تلفزيون سوريا”، أن نمط الهطولات المطرية شهد تغيرًا ملحوظًا هذا العام، إذ اعتادت الأمطار في السنوات الماضية أن تبدأ من المناطق الشمالية والشمالية الغربية، ثم تمتد تدريجيًا نحو الجنوب والجنوب الشرقي، بينما هطلت هذا الموسم بشكل معاكس، بدءًا من المناطق الجنوبية.

وأشار عفيف إلى أن هذا التغير أدى إلى تدفق بعض الأنهار والينابيع في وقت مبكر مقارنة بالمعتاد، إلا أن هذا الجريان، بحسب تقديره، لن يكون له تأثير كبير على الإنتاج الزراعي، نظرًا لأن الزراعة تعتمد بالدرجة الأولى على مخزون السدود وليس على الجريان السطحي المؤقت.

وأضاف أن الفائدة المحتملة قد تقتصر على المناطق الرعوية، حيث يمكن أن ينعكس تحسن الغطاء النباتي إيجابًا على الثروة الحيوانية، في حين تبقى الاستفادة الزراعية محدودة، خاصة في ظل قلة عدد السدود في سوريا. وشدد على ضرورة اعتماد سياسات تركز على تخزين المياه ومنع هدرها باتجاه البحر، معتبرًا أن كميات الهطل الحالية لا تعوض الفاقد المائي المتراكم.

شح المياه وتراجع الزراعة البعلية

واعتبر عفيف أن شح المياه يمثل التحدي الأبرز أمام المزارعين، مشيرًا إلى لجوء بعضهم إلى استخدام أنواع حديثة من الأسمدة التي تساعد على حفظ رطوبة التربة وتقليل استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 40%. وأكد أن القطاع الزراعي يحتاج إلى قرارات داعمة وإجراءات عملية لمساندة الفلاحين، بما يسهم في تعافي الزراعة بشقيها النباتي والحيواني.

وبحسب عفيف، شهدت الزراعة البعلية تراجعًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج وعدم وضوح التوقعات المناخية، ما دفع كثيرًا من المزارعين إلى الابتعاد عن هذا النمط من الزراعة، خشية الخسائر في حال عدم كفاية الأمطار.

كما أشار إلى تخلي عدد كبير من المزارعين عن زراعة القطن، نظرًا لاحتياجه الكبير إلى المياه، والاتجاه نحو محاصيل أقل استهلاكًا للمياه، لافتًا إلى أن الاعتماد على المياه الجوفية ليس خيارًا مستدامًا على المدى الطويل. وتوقع أن تشهد السنوات القادمة انتقالًا تدريجيًا للزراعات نحو مناطق الجزيرة، نظرًا لاتساع الأراضي الزراعية وتوافر الموارد المائية نسبيًا.

الزراعة البعلية وأهميتها في سوريا

من جهته، أوضح الخبير في الشؤون الزراعية، المهندس عبد الرحمن قرنفلة، أن الزراعة البعلية تشكل العمود الفقري للمساحات المزروعة في سوريا، مشيرًا إلى أن إجمالي المساحة المزروعة في عام 2023 بلغ نحو 4.03 ملايين هكتار، منها حوالي 2.95 مليون هكتار زراعة بعلية، مقابل 1.08 مليون هكتار زراعة مروية.

وبيّن قرنفلة أن محاصيل الحبوب والشعير والزيتون تعد من أكثر الزراعات البعلية انتشارًا من حيث المساحة، رغم التغير المستمر في توزيع هذه المساحات، مؤكدًا أن الأراضي البعلية لا تزال تشكل نسبة كبيرة من إجمالي الأراضي المزروعة في البلاد.

وحول مستقبل هذا النمط الزراعي في ظل التغيرات المناخية، حذر قرنفلة من أن الزراعة البعلية ستفقد جدواها الاقتصادية إذا لم يتم اعتماد أنظمة تخطيط زراعي ذكية، تركز على الحفاظ على رطوبة التربة وزراعة محاصيل متحملة للجفاف.

وأشار إلى أن القطاع الزراعي تأثر بشكل كبير خلال السنوات الماضية نتيجة تدهور البنى التحتية وتغيرات ديموغرافية واسعة، ما زاد من الأعباء على المزارعين، الذين يواجهون صعوبات في تأمين مستلزمات الإنتاج من بذار وأسمدة ومواد مكافحة، إضافة إلى تحديات التمويل وتسويق المحاصيل.

الهطولات أقل من المعدل السنوي

بدوره، قال مدير دائرة الإعلام في وزارة الطاقة، عبد الحميد سلات، إن سوريا تأثرت بعدة منخفضات مطرية منذ شهر تشرين الثاني وحتى الآن، مشيرًا إلى أن معدلات الهطل في بعض المناطق كانت أعلى مقارنة بالعام الماضي للفترة الزمنية نفسها، بينما سجلت مناطق أخرى معدلات مماثلة أو أقل.

وأوضح سلات أن التأثير الفعلي للهطولات الحالية لا يزال محدودًا، نظرًا لأن كميات الأمطار المسجلة لا تتجاوز 10% من المعدل السنوي العام، مع احتمال أن يسهم جريان بعض الأودية في رفع مخزون السدود بشكل طفيف.

إجراءات لمواجهة الجفاف

وحول الإجراءات المتخذة لمواجهة مخاطر الجفاف، أشار سلات إلى أن الوزارة تعمل على تنفيذ مشاريع لحصاد المياه، تهدف إلى الاستفادة من كل قطرة مطر، من خلال بناء سدود وسدّات مائية وخزانات في عدد من المحافظات، من بينها اللاذقية وإدلب وحماة وحلب وطرطوس والسويداء وحمص.

كما لفت إلى جهود رفع كفاءة استخدام الموارد المائية، خاصة في القطاع الزراعي، عبر تشجيع الاستثمار الجماعي للمصادر المائية، وتركيب شبكات الري الحديث، بما يسهم في تقليل الهدر وتحقيق عدالة التوزيع المائي وخفض التكاليف وزيادة إنتاجية الأراضي.

وتشمل الإجراءات أيضًا تعديل التشريعات المائية، لا سيما ما يتعلق بالعقوبات والغرامات، للحد من الحفر العشوائي واستنزاف المياه الجوفية، إضافة إلى العمل على تأمين مصادر مائية بديلة من خلال معالجة مياه الصرف الصحي والصناعي وإعادة استخدامها في الري الزراعي.

قطاع زراعي يواجه تحديات متراكمة

شكّل القطاع الزراعي لعقود ركيزة أساسية للاقتصاد السوري، ووفّر فرص عمل واسعة، خاصة في المناطق الريفية، مع اعتماد كبير على الزراعة المروية والبعلية لإنتاج محاصيل استراتيجية مثل القمح والشعير والقطن. إلا أن هذا القطاع شهد خلال السنوات الأخيرة تراجعًا ملحوظًا، نتيجة شح الموارد، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وتراجع مستويات الدعم.

وتفاقمت هذه التحديات مع ضعف البنية التحتية وارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج، ما دفع عددًا متزايدًا من المزارعين إلى التخلي عن أراضيهم، في ظل مخاوف متزايدة على الأمن الغذائي واستدامة سبل العيش الزراعية.

وفي ظل هذه المعطيات، يبدو أن الهطولات المطرية الحالية، رغم أهميتها، تبقى غير كافية وحدها لإحداث تحول ملموس في واقع الزراعة السورية، ما لم تترافق مع سياسات مائية وزراعية طويلة الأمد، قادرة على التكيف مع التغيرات المناخية وضمان استدامة الموارد.

اقرأ أيضاً:أزمة الأمن الغذائي في سوريا: الزراعة بين التراجع والحلول المؤجّلة

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر انستغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.