دمشق بين روسيا وأميركا: رهانات التحالفات وتحديات الانفتاح الدولي
تُعد علاقة سوريا بالقطبين الدوليين، روسيا والولايات المتحدة، محورًا رئيسيًا لرسم خرائط النفوذ والسيادة في المشرق العربي. على مدى عقود، مارست سوريا سياسة “اللعب على الحبال”، مستفيدة من التنافس الدولي لتحقيق مكاسب إقليمية أو ضمان استقرار النظام السياسي الداخلي.
التحالف الروسي: شريك استراتيجي أم رهان محفوف بالمخاطر
تمثل موسكو في نظر دمشق “الركيزة الثابتة” على الساحة الدولية، خصوصًا في ظل تراجع النفوذ الغربي في بعض الملفات الإقليمية. ويُنظر إلى سوريا على أنها بوابة استراتيجية لموسكو على المتوسط وحصن ضد التمدد الغربي شرقاً.
في هذا الإطار، بدأ وفد سوري رفيع المستوى زيارة رسمية إلى موسكو الثلاثاء الماضي، ضم وزير الخارجية أسعد الشيباني ووزير الدفاع اللواء مرهف أبو قصرة، بالإضافة إلى قيادات من جهاز الاستخبارات العامة، لإجراء مباحثات موسعة مع القيادة الروسية. وتركزت المناقشات على التعاون الاقتصادي، والأمن الغذائي، والطاقة، فضلاً عن تعزيز التنسيق العسكري والأمني وتبادل الخبرات التدريبية بين وزارتي الدفاع في البلدين.
وكانت زيارة الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع إلى الكرملين منتصف تشرين الثاني/أكتوبر الماضي قد شكلت مدخلاً لهذا الحراك الدبلوماسي المكثف، حيث أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن العلاقات بين روسيا وسوريا تاريخية وودية، وأن موسكو تراعي مصالح الشعب السوري. من جانبه، اعتبر الشرع أن من مصلحة سوريا الحفاظ على علاقات هادئة مع روسيا، مع ضرورة تجاوز العقبات الماضية والتعامل بمرونة مع المستقبل.
المخاطر الاقتصادية والسياسية للتحالف مع موسكو
رغم أهمية روسيا كحليف عسكري واستراتيجي، إلا أن التحالف معها لا يضمن دمشق القدرة على الانفتاح الدولي أو استعادة مكانتها الاقتصادية، خاصة في ظل العقوبات الأميركية مثل قانون قيصر. فواشنطن تتحكم في أدوات الاقتصاد الدولي، بما يشمل الاستثمارات وإعادة الإعمار، فضلاً عن ملفات التسهيلات المالية عبر المؤسسات الدولية. ومن ثم، فإن التوجه الكامل نحو موسكو قد يقيد حرية القرار السوري ويجعلها رهينة للمصالح الروسية الإقليمية.
كما أن التفاهمات الروسية-الإسرائيلية المتعلقة بعمليات عسكرية محدودة داخل سوريا، والتوازن الروسي مع تركيا، قد لا تكفي دمشق لضمان حماية أمنها القومي الشامل أو استعادة السيطرة الكاملة على الشمال.
الولايات المتحدة و”قسد”: تحديات السيادة السورية
تواجه الإدارة السورية الجديدة هواجس كبيرة من الدور الأميركي، خصوصًا دعم الولايات المتحدة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ما يُنظر إليه في دمشق على أنه تقويض للسيادة الوطنية. ويتركز القلق السوري على بند دمج مقاتلي “قسد” في مؤسسات الدولة والجيش، وهو ملف حساس مع اقتراب الموعد النهائي في 31 ديسمبر 2025، ويطرح تحديات أمام التوصل إلى حل سياسي شامل دون العودة إلى مربع التوتر العسكري.
كما تعتمد واشنطن على “قسد” لتأمين المعتقلين من مقاتلي تنظيم “داعش” وأسرهم، وحماية خطوط إمدادها في المنطقة، وهو ما يعزز من الثقة الأميركية بهذه القوات، بينما تبقى موسكو مقيدة بقدرتها على التحرك دون ضوء أخضر من واشنطن، في ظل تفاهمات أميركية عميقة مع “قسد”.
رهانات دمشق بين القوة الروسية والضغط الدولي
تسعى دمشق اليوم لتحقيق توازن دقيق بين تعزيز تحالفها مع موسكو، ومعالجة المخاوف الأميركية، بما يضمن استقرار الدولة وسيادتها. إلا أن هذا المسار محفوف بالمخاطر، إذ أن الاعتماد المفرط على روسيا قد يقوض فرص الانفتاح الدولي ويعيد البلاد إلى مربع الصراعات الكبرى بدل تحقيق الاستقرار المنشود.
في هذا السياق، يرى خبراء أن التحالف مع موسكو لا يمنح دمشق أدوات اقتصادية كافية، وأن أي تنازلات روسية في ملفات أخرى قد تأتي على حساب مصالح سوريا. وفي الوقت ذاته، يمكن أن يُفسر الانحناء الكامل نحو موسكو في واشنطن كدليل على “عدم الجدية”، ما يؤدي إلى تشدد العقوبات واستمرار العزلة الدولية.
يبقى الموقف السوري الحالي محاولة لتحقيق توازن صعب بين روسيا والولايات المتحدة، بين القطب العسكري والاقتصادي من جهة، والرهانات السياسية والأمنية الداخلية من جهة أخرى. هذا الواقع يعكس مدى تعقيد الخيارات الاستراتيجية أمام دمشق، حيث تتقاطع الحسابات الدولية مع الملفات الداخلية المتشابكة، في وقت يظل فيه تحقيق الانفتاح الدولي واستعادة الاستقرار الوطني تحديًا مركزيًا.
اقرأ أيضاً:سوريا الجديدة وروسيا: من خنادق الحرب إلى ورشات الإعمار.. ماهي خفايا الانفتاح المفاجئ؟