سجلت أسعار الذهب في السوق السورية، ارتفاعًا ملحوظًا بالتزامن مع تراجع جديد في قيمة الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي، في مشهد يعكس تداخل العوامل العالمية مع هشاشة الواقع الاقتصادي المحلي، وسط ترقب واسع لمرحلة تبديل العملة الوطنية.
وبحسب النشرة الثانية الصادرة عن جمعية الصاغة، ارتفع سعر غرام الذهب عيار 21 قيراطًا بنحو 20 ألف ليرة سورية مقارنة بسعره سابقاً ليبلغ مليونًا و490 ألف ليرة مبيعًا، ومليونًا و460 ألف ليرة شراءً، بعد أن كان قد سجل صباحًا نحو مليون و470 ألف ليرة للغرام الواحد.
وجاء هذا الارتفاع متزامنًا مع انخفاض قيمة الليرة السورية أمام الدولار، إذ تراوح سعر الصرف في شركات الصرافة بين 11,850 و11,900 ليرة للدولار الواحد، وفق ما رصدته “عنب بلدي” في حين حددت شركة المحروقات السورية سعر الدولار عند 12,000 ليرة للبيع في محطات الوقود. كما بلغ سعر الصرف، لحظة كتابة التقرير، نحو 11,960 ليرة للدولار، بحسب موقع “الليرة اليوم”.
الذهب عالميًا وتأثيره محليًا
يربط الباحث الاقتصادي محمد السلوم بين ما يجري في السوق السورية والتطورات العالمية، مشيرًا إلى أن الاقتصاد العالمي يشهد منذ أشهر موجة صعود قوية في أسعار الذهب، تجاوزت خلالها الأونصة مستويات تاريخية جديدة. ويعزو السلوم هذا الاتجاه إلى مزيج من الضغوط التضخمية، وتراجع الثقة النسبي بالعملات الورقية الكبرى، إلى جانب الشكوك المرتبطة باستدامة المديونية الأمريكية.
ويشرح السلوم أن توقعات انخفاض أسعار الفائدة الحقيقية، أو تصاعد المخاوف حيال الاقتصاد الأمريكي، تدفع المستثمرين عالميًا إلى إعادة موازنة محافظهم بعيدًا عن الأصول الدولارية باتجاه الذهب بوصفه ملاذًا آمنًا. وفي المقابل، فإن فترات تماسك الدولار أو ارتفاع عوائده قد تؤدي إلى تباطؤ مؤقت في صعود الذهب، من دون أن تلغي الاتجاه العام المدفوع بحالة عدم اليقين الجيوسياسي والمالي عالميًا.
انعكاسات مباشرة على الليرة
في السياق السوري، يرى السلوم أن هذه التطورات لا تبقى محصورة في المؤشرات العالمية، بل تتحول إلى عامل ضغط مباشر على العملة المحلية، في اقتصاد يعاني هشاشة بنيوية. فارتفاع الذهب عالميًا يعني، عمليًا، ارتفاع كلفة التحوط داخل سوريا، حيث يلجأ الأفراد والتجار إلى تحويل مدخراتهم المحدودة إلى ذهب أو دولار، هربًا من تآكل القوة الشرائية لليرة.
ويضيف أن كل موجة صعود جديدة في أسعار الذهب تعمّق البعد النفسي لفقدان الثقة بالعملة الوطنية، ما يؤدي إلى تسارع الطلب على العملات الصعبة، واتساع الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازي، لتدخل الليرة في حلقة تغذية راجعة سلبية يصعب كسرها باستخدام أدوات نقدية تقليدية فقط.
العملة السورية الجديدة… بين التطمين والقلق
في ظل هذه التطورات، أعلن الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، إلى جانب حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر الحصرية، عن إطلاق العملة السورية الجديدة، التي تضم ست فئات، وذلك خلال حفل أقيم في قصر “المؤتمرات” بدمشق مساء الاثنين 29 كانون الأول.
وأكد الشرع أن المرحلة الحالية “حساسة ودقيقة”، مشددًا على ضرورة تجنب حدوث حالة فزع بين المواطنين أو تسارع في التخلص من العملة القديمة، موضحًا أن كل من يحمل العملة الحالية سيتمكن من استبدالها بالجديدة ضمن آلية منظمة، داعيًا إلى عدم الإلحاح على التبديل لما قد يسببه ذلك من ضغط على سعر الصرف.
وأشار الشرع إلى أن العملة الجديدة تهدف إلى تسهيل عمليات التداول وتقليل الاعتماد على الدولار، وتعزيز الثقة بالاقتصاد على المدى الاستراتيجي، مؤكدًا الحاجة إلى “ثقافة جديدة” تجرّم المضاربة الوهمية، وتضمن ضخ السيولة بشكل تدريجي لا يؤدي إلى تضخم إضافي.
وكان مصرف سوريا المركزي قد أعلن أن إطلاق الليرة السورية الجديدة سيتم مطلع كانون الثاني 2026، بعد حذف صفرين من العملة المتداولة، استنادًا إلى المرسوم رقم “293” لعام 2025، الذي منح المصرف صلاحيات كاملة لتحديد آليات التطبيق وجدول الاستبدال.
السياسة والاقتصاد: عامل ضغط إضافي
يرى السلوم أن العامل الخارجي يتشابك مع واقع سياسي وأمني داخلي معقد، يتمثل في اضطرابات أمنية متفرقة، وتعثر مسارات التفاهم بين الجهات المختلفة، ما يعيد إنتاج صورة بلد لم يحسم بعد شكل استقراره النهائي. وفي مثل هذا المناخ، تبقى قرارات الاستثمار رهينة الترقب، وتتأجل المشاريع، وتتوقف خطوط الإنتاج عن التوسع، بينما تتردد رؤوس الأموال في العودة، وهو ما ينعكس مباشرة على سوق الصرف ويزيد الضغط على الليرة.
ويخلص السلوم إلى أن سعر صرف الليرة الحالية هو نتاج تفاعل ثلاثي المستويات: تضخم خارجي يدفع الذهب صعودًا ويضعف الثقة بالعملات الورقية، ودولرة متزايدة داخل الاقتصاد السوري لحماية المدخرات، وبيئة سياسية وأمنية غير مستقرة تؤخر تفعيل الاستثمارات. ويؤكد أن إصدار عملة جديدة، بحد ذاته، لن يكون كافيًا لإحداث تحول جوهري في سعر الصرف ما لم يترافق مع إصلاحات اقتصادية ومؤسسية وسياسية عميقة.
دولرة المدخرات وسلوك الأفراد
في موازاة ذلك، تشهد الأسواق حالة ترقب حذرة مع اقتراب موعد طرح العملة الجديدة، انعكست على سلوك الأفراد الذين يتجه كثير منهم نحو الدولار بوصفه ملاذًا أكثر أمانًا. ويعد هذا السلوك، وفق مراقبين، تكرارًا لنمط يترافق مع كل تحول نقدي كبير، في ظل تجارب سابقة اتسمت بعدم الاستقرار وغياب الشفافية.
الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي مجدي الجاموس يعتبر أن هذا التوجه مفهوم وطبيعي، مشيرًا إلى أن توقيت عملية تبديل العملة سيكون العامل الحاسم في تحديد نتائجها. ويرى أن العملية قد تؤدي، في أسوأ السيناريوهات، إلى انفجار تضخمي، أو قد تسهم، في حال إدارتها بحذر، في خفض سعر الدولار وتعزيز الثقة بالليرة، إلا أن صغار المدخرين، بحسب تعبيره، يفضلون “الملجأ الأكثر أمانًا” لتجنب المخاطرة.
ويحذر الجاموس من وجود كتل نقدية ضخمة مخزنة لدى المواطنين، تُقدّر بنحو 40 تريليون ليرة سورية، إضافة إلى أموال مزورة، قد تُضخ إلى السوق دفعة واحدة خلال مرحلة تبديل العملة، ما قد يؤدي إلى زيادة حادة في عرض الليرة ورفع مخاطر التضخم، إذا لم تُدار العملية ضمن إطار نقدي صارم ومدعوم.
ويتفق الباحث الاقتصادي محمد علبي مع هذه المخاوف، معتبرًا أن القلق من تذبذب الأسعار عند حذف صفرين من العملة مبرر، في ظل غياب سياسة واضحة لسعر الصرف أو إطار نقدي معلن، ما يجعل اللجوء إلى الدولار سلوكًا دفاعيًا أكثر منه حالة هلع.
وفي ظل هذه المعطيات، تبقى المرحلة المقبلة اختبارًا حقيقيًا لقدرة السلطات النقدية على إدارة التحول، وامتصاص الصدمات المحتملة، وربط الإصلاح النقدي بمسار اقتصادي وسياسي أوسع، قادر على استعادة قدر من الثقة المفقودة بالليرة السورية.