بين التصوف والوهابية: الجدل السني يتصاعد في سوريا ما بعد الأسد
في سوريا الجديدة، التي تتشكل ببطء فوق أنقاض نظام الأسد، يبرز صراع ديني داخل البيت السنّي نفسه، يتخذ شكلاً غير مسبوق في التاريخ السوري المعاصر، بين تيارات تُعرّف نفسها كامتداد للإسلام التقليدي المعتدل، وأخرى تدفع باتجاه رؤية أكثر تشدداً، ذات جذور وهابية.
في بلد طالما روّج نظامه السابق لصورة “الوحدة الوطنية”، بينما كانت الطائفية تُزرع بصمت في تفاصيل الحياة اليومية، يجد كثير من السوريين أنفسهم اليوم أمام مشهد ديني أكثر تعقيداً وانقساماً.
إذ لا يتعلق الأمر بصراع طائفي بين مذاهب مختلفة فحسب، بل بصراع داخلي بين أبناء الطائفة السنّية أنفسهم، حول من يمثل المرجعية، ومن يملك الشرعية، ومن يُعيد تعريف “الدين الصحيح”.
الرفاعي مفتياً… والصراع يحتدم
في خطوة وصفت بأنها محاولة لاستعادة التوازن داخل الساحة الدينية، أعلن الرئيس الانتقالي لسوريا أحمد الشرع تعيين الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً للجمهورية.
الرفاعي، المعروف بانتمائه للتيار الصوفي ووقوفه في وجه النظام السابق، يمثل تياراً عريقاً في الشام يرتكز إلى التصوف والمدرسة الأشعرية، ويجد قبولاً واسعاً بين شرائح من الشعب السوري.
لكن هذا التعيين لم يُنهِ الخلاف، بل سرعان ما ظهرت مؤشرات على تصاعد التوتر بين التيارات السنّية التقليدية من جهة، وبعض الجهات الدينية السلفية التي يُنظر إليها على أنها تميل للخطاب الوهابي من جهة أخرى.
الشيخ عبد القادر الحسين، أحد أبرز وجوه هذا الجدل، أشار في تصريحات مصوّرة إلى مضايقات طالت مجالس الذكر والتدريس الصوفي، منها حادثة في حماة، حيث اعتُدي على مجلس ديني بسبب عدم التزامه بـ”النهج الوهابي”، على حد تعبيره.
تحذيرات من فرض “نموذج ديني أحادي”
الحسين، الذي لم يخفِ انتقاده لما وصفه بـ”التضييق الممنهج على التيارات الصوفية والأشعرية”، اعتبر أن فرض خطاب وهابي في المساجد وتوزيع كتب مجانية ذات طابع متشدد في الشوارع، مؤشرات خطيرة على انحراف عن المسار المعتدل الذي عرفته سوريا لعقود.
وقال: “الوهابية لم تكن يوماً جزءاً من هوية الشام الدينية. ما يجري اليوم هو محاولة لتزوير هذه الهوية، وفرض نمط لا يمثل الأغلبية”.
كلامه لقي صدى لدى مرجع ديني بارز تحدّث إلى موقع “المدن”، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، وقال إن ما يجري هو “تمدد غير متوازن للفكر السلفي، قد يؤدي إلى شرخ داخل الطائفة السنّية نفسها”، وهو ما يُعد سابقة في التاريخ السوري.
مخاوف من تغير ديني على الأرض
بعيداً عن الجدل النخبوي، بدأت ملامح هذا التحوّل بالظهور في الحياة اليومية. في بلدة عدرا العمالية، أكّد سكان لـ”المدن” حدوث تغييرات غير مبررة في أئمة وخطباء المساجد، ما انعكس على محتوى الخطب، التي باتت تتجه نحو خطاب ديني أكثر تشدداً.
أم محمد، وهي من إدلب وتقيم في عدرا، تحدّثت عن تحوّل في سلوك ابنها بعد انخراطه في دروس دينية جديدة، وذكرت أنها سمعت أحاديث داخل المنزل تدعو إلى الجهاد والتكفير.
وفي دمشق، تروي سيدة من حي المزة قصة ابنتها التي ارتدت النقاب فجأة بعد قراءتها كتباً وُزّعت في الشارع، وقالت: “نحن من أهل السنّة، لكن ما يحدث لا علاقة له بالاعتدال، بل يشبه ما كنا نراه في مناطق سيطرة داعش”.
خلاف فكري أم صراع نفوذ؟
يُجمع علماء ومراقبون على أن ما يجري لا يقتصر على الخلاف الفكري، بل يشير إلى صراع على النفوذ داخل المجال الديني العام، الذي لطالما استخدمته الأنظمة في سوريا كأداة للضبط والسيطرة.
فبين المدرسة الأشعرية التي تُعد العمود الفقري للسنّة التقليديين في الشام، والمدرسة الماتريدية التي تنتشر في أوساط الحنفية، والتيارات الصوفية الممتدة في المدن والبلدات، تبرز الدعوة الوهابية كمشروع “دخيل نسبياً”، يعيد تشكيل المشهد الديني بوسائل وأدوات مختلفة، من الخطبة إلى المنهاج، ومن الكتب إلى المظهر الخارجي.
هل تتكرر تجربة الإقصاء باسم الدين؟
في جوهره، يبدو هذا الجدل انعكاساً لسؤال أكبر: أيّ إسلام سيمثّل السوريين في مرحلتهم القادمة؟
هل تعود البلاد إلى تراثها الوسطي المعتدل، أم تنزلق نحو تشدد يعيد إنتاج الانقسام باسم الدين؟
التحذيرات تتزايد من أن غياب التوازن قد يُفضي إلى استقطاب جديد، لا يقل خطورة عن الاستقطاب الطائفي الذي فجّر البلاد منذ أكثر من عقد.
الاعتدال الديني، كما يراه كثيرون، ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة اجتماعية ووطنية، لحماية النسيج السوري من مزيد من التفكك… والعودة إلى مربع الصراع.
إقرأ أيضاً: واقع صحي صعب في سوريا بين نقص التجهيزات الحكومية وارتفاع تكاليف
إقرأ أيضاً: السويداء تعاني العطش: أزمة مياه خانقة بسبب تعطل الآبار وانقطاع الكهرباء