ليس مفاجئاً ما يحصل في الشرق السوري، المواجهة بين “قسد” و”مجلس دير الزور العسكري” لم تبدأ قبل أيام بكمين قاعدة “الوزير” العسكرية، الذي اعتقلت فيه زعامات المجلس، بل تعود إلى أصل الشراكة التي جمعت الفصائل العربية تحت راية “قسد” بإرادة أمريكية، كان هدفها وضع المنطقة تحت حالة من الاستقرار النسبي إلى حينٍ يكون فيه الوقت مناسباً للانتقال إلى مراحل متقدمة على خط المناكفة والمواجهة مع القوى الأساسية والكبرى في المنطقة.
في البداية، أقنعت “قسد” بعض المكونات العربية بأنها ستكون الغطاء الآمن لهم، بعد انتصارهم سوية على “داعش” في تلك المناطق، حسبما تروج زعامات الميليشيا، لكنها لم تستطع أن تنقل حالة التوافق تلك التي حصلت في المعركة ضد التنظيم الإرهابي، إلى الحالة المدنية، فتطلعات سكان الجزيرة العرب تختلف عن تطلعات المكون الكردي، والعادات الاجتماعية لا تنسجم وكذلك لا يقبل أبناء الجزيرة ممارسات “الميليشيا” كالتجنيد القسري وغيرها، وعليه تم الاتفاق باستمرار الشراكة لكن مع ضمان بقاء تلك الفصائل في مناطقها، أي دون أن يحصل دمج يشتت مراكز الثقل لتلك المكونات العشائرية.
وبقي الحال على ما هو عليه، طيلة سنوات ماضية، انسجمت فيها تلك الفصائل مع وجود قوات الاحتلال، وصارت شريكة مع “قسد” في عمليات تهريب النفط وغيره، وحقق كثيرون منهم ثروات ضخمة على حساب أهل الجزيرة والسوريين عموماً، لكن تفاقمت الخلافات على الثروة والنفوذ لاحقاً، وساهمت في تصعيد حدة الموقف بين الميليشيا والمكونات العربية الداخلة فيها، سيما وأنها لم تقبل بوجود صوتٍ أعلى من صوت ديكتاتور “قسد” مظلوم عبدي، فراحت قواتها تقص أجنحةَ ورؤوس الفصائل العربية واحداً تلو الآخر، بدءاً من لواء ثوار الرقة، وصولاً الآن إلى مجلس دير الزور العسكري، الذي دعي زعيمه إلى اجتماع عمل، وإذ به يصل إلى مأدبة قتله سياسياً.
ومنذ تلك اللحظة، والجزيرة في حالة من الغليان، تتمدد فيها رقعة الاشتباك بين قوات “قسد” والمجموعات العشائرية من جهة أخرى، التي تعتبر أن ما تقوم به “جماعة قنديل” استهداف للمكون العربي، لم يعد ممكناً السكوت عنه، والمطلوب مواجهته في جميع المناطق والقرى، وهو ما بدأ بطرد عناصر “قسد” من مختلف قرى ريف دير الزور الشرقي، والاشتباك معهم على طول الخط من البصيرة إلى جديد عكيدات ومناطق أخرى، حيث تسببت الاشتباكات بمقتل العشرات من الطرفين وحركة نزوح كبيرة. وللمشهد هذا دلالات عدة لا بد وأن تأخذ بعين الاعتبار.
“قسد” وخدمة المشروع الأمريكي
قد يكون وراداً وبشكل كبير، أن يتم تحليل المشهد القائم الآن في دير الزور، على أنه جاء بتنسيق مباشر بين “قسد” وقيادة الاحتلال الأمريكي، التي أرادت أن تستخدم الميليشيا كأداة ضغط على العشائر التي رفضت الانخراط في مشروع “الجيش الموحد” الذي تعمل على إنشاءه منذ أشهر في المنطقة الشرقية، وانطلاقاً من التنف، وهو مشروع كان قد حظي برفض عدد كبير من عرب الجزيرة، ولأسباب عدة يمكن تفنيدها ببعض البنود:
أولاً: عدم انسجامهم وباقي الفصائل التي تعمل تحت إمرة واشنطن.
ثانياً: قناعتهم بعدم صوابية المشروع وبأن هذه الشراكة لن تحقق لهم أي شيء.
ثالثاً: رفض كثيرين الانخراط في مواجهة مع الدولة السورية أو أبناء العشائر غرب الفرات.
“قسد” واستشعار خطر النهاية
الاحتمال الثاني، في سياق تفسير وصول الخلافات بين “قسد” ومجلس دير الزور العسكري إلى ما وصلت إليه، هو أن الميليشيا استشعرت خطراً ببقاء مجلس دير الزور العسكري في مناطق دير الزور الشرقي، القريبة والمحاذية للقرى التي تسيطر عليها الدولة السورية، والتي تمنحه ورقة قوة للتقرب من الاحتلال الأمريكي الذي لا شك برغبته الكبيرة للعبور باتجاهها بهدف توسيع نطاق سيطرته في دير الزور واتمام مشروع إغلاق الطريق مع العراق. وهذه السيطرة الجغرافية لمجلس دير الزور العسكري لا بد وأن تشكل عبئاً على “قسد” إذ أنها تبرر تعميق التواصل بين المجلس وقواعد الاحتلال.
وفي هذا الصدد، لا ترغب زعامات “قسد” بوجود أي قوة عسكرية قادرة على خدمة المشروع الأمريكي، ومحاصصتها في أرباح مشروعه الاحتلالي بالمنطقة، وكذلك التأثير على نفوذها وجغرافية سيطرتها، الأمر الذي إن حصل سيدفع فصائل عربية أخرى للتمرد وبالتالي انحسار “قسد” بالمكون الكردي فقط لا غير.
وعليه بدأت “قسد” بالتحرك لقطع الطريق على مجلس دير الزور العسكري الرافض لممارسات الميليشيا أصلاً، وعملت على إرسال “الأسايش” وقوات أخرى إلى مناطق انتشاره، ونصبت الحواجز ونفذت الاعتقالات وحصلت بينها وبين عناصر المجلس مناوشات محدودة في تموز الماضي، وسرعان ما تدخل التحالف الدولي يومها وعمل على حل الخلافات، التي عادت لتشتعل مع نهاية شهر آب، وتشعل معها الجزيرة.
العشائر وقسد وقود تلاعب الاحتلالات
الاحتمال الثالث القائم في تقدير الموقف بالجزيرة، أن يكون الاقتتال مفتعلاً بتنسيق أميركي تركي، هدفه توحيد السيطرة من الشمال الغربي إلى الشمال الشرقي وصولاً إلى دير الزور، وتحييد “قسد” نسبياً من المشهد بما يرضى التركي، ويحقق تكاملاً بين مشروعي الاحتلالين، على اعتبار أن الولايات المتحدة لا يهمها إن كانت المنطقة بيد “قسد” أو غيرها، وما يهمها هو استمرارية المشروع ويبرر ذلك مجموعة مؤشرات:
أولاً: إرسال مجموعات موالية لتركيا إلى “التنف” بغرض التدريب وتنفيذ مهام معينة.
ثانياً: زيارة وفد من الكونغرس الأمريكي إلى معبر باب السلام وإجراءه لقاءات عديدة في تلك المنطقة.
ثالثا: تحرك جماعات الاحتلال التركي ضد الجيش السوري تزامناً مع تحرك “داعش” في البادية.
رابعاً: التقارب التركي الأمريكي في هذه المرحلة مهم بالنسبة للولايات المتحدة بشكل أكبر بكثير من إرضاء قسد.
في الخلاصة وعلى اعتبار أن كل تلك الاحتمالات قائمة، لا بد وأن يطرح البعض سؤالاً مشروعاً، هل ستنتهي “قسد”؟ والجواب حتماً لن تنته، ستبقى ورقة معطِلة في الشمال الشرقي. إذا ما الذي سيحصل ما بعد الهبة العشائرية ضد الميليشيا، هنا يمكن الإشارة إلى إعطاء زخم أكبر للحالة العشائرية في المنطقة المناوئة للدولة السورية ولـ “قسد”، والتي يمكن أن يكون هناك مداخل للتفاوض معها مستقبلاً من كل الأطراف، وطريقها مهما كان صعباً، يبقى أسهل من تفكيك المشروع الكردي.