رمى المواطن السوري آخر أوراقه من البساطة في بحر من الظروف الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها خلال الفترة الأخيرة، ومع ازدياد الضغط على المعيشة، وتردي الحال العام “نفسياً ومادياً” بدأ كثيرون يفقدون حتى متعة الجلوس مع العائلة أو الأصدقاء، فحتى هذه الجلسات المتواضعة صارت كلفتها عالية.
وتتعلق الكلفة بمكونات تلك الجلسات، وما يربط الكثير من الناس ببعضهم البعض إضافة إلى روابط المحبة أو العلاقات الاجتماعية، فكثيرون يعتقدون أن جلسة “المتة” و”الأركيلة” من أهم عناوين الجلسات في الليالي المعتمة، أو ما بعد نهاية العمل، وفي العطل الأسبوعية والرسمية، وتتجاوز “المتة والأركيلة” بمفهوم السوريين حدوداً كثيرة، حيث يعتبر كثيرون أنهما من أهم عناصر سهرات الأسر والأصدقاء، وهما المشروبان الملازمان لمتابعة فيلم في المنزل مع بعض “المقرمشات” أو حتى للتعبير عن الفرحة بقدوم ضيف عزيز أو جار أو قريب أو صديق، فيقول المُضيف للضيف “عازمك على “كاسة متة” و”نفس أركيلة”.
يقول “إياد سهيل” شاب من طرطوس لـ “داما بوست”.. “التفصيل الوحيد الذي شعرنا بغيابه هو إبريق “المتة” الذي كان متواجداً دائماً على “صوبيا الحطب” واجتماع العائلة حولها، هذا الإبريق كان سبباً لسهراتنا الطويلة، وخاصة في أيام البرد، أما اليوم بتنا نبتعد عن هذه الطقوس حتى التغت نهائياً وألغت معها جمعتنا نتيجة لارتفاع سعرها، بطريقة ما حرمنا من أشيائنا البسيطة، حتى الجمعات الممتعة”.
وعبرت “زينة.س” وهي سيدة لديها طفلين من سكان بانياس لـ “داما بوست”.. “أصبحنا نطبق أغنية السيدة فيروز “زوروني كل سنة مرة” بسبب حرماننا من أبسط ما نستحق، وهو وقت الراحة، اليوم لم نعد نستطع أن نضيع دقيقة واحدة دون عمل، ليلاً نهاراً نعمل حتى نأكل، كان همنا الأخير هو حصولنا على أي شيء نريد، واليوم مهما فعلنا فأبسط احتياجاتنا لم نعد قادرين على شرائها، حتى أننا أصبحنا نخجل من أطفالنا وين كنا ووين صرنا، الشهر الماضي زارنا ضيوف، القليل من مأكولات الضيافة البسيطة والتي لا تتعدى بعض الموالح والفواكه تجاوزت 50 ألفاً، أتمنى أن تعود أيام زمان لما فيها من خير وبساطة”.
“لم يعد يشعر المواطن أنه جزء من هذه الحياة” بهذه العبارة بدأ “زين .خ” وهو مدرس في إحدى مدارس دمشق كلامه لـ “داما بوست” عن واقع الظروف التي يعيش فيها مضيفاً.. “مقولة سقراط “تكلم حتى أراك” لم تعد تنفع في هذه الظروف، فلا كلامنا يصل، ولا عيونهم ترى، ما كنا نتخيل أن حتى أبسط عاداتنا لم نعد قادرين على فعلها، كنا نجلس يومياً أو شبه يومي، وبالدور كل يوم عند شخص، كانت الطاولة بغض النظر عن “المتة” والتي تعتبر أساسية مليئة بـ “الموالح” و أصناف أخرى من التسالي، ودائماً كنا نجلس ما يقارب 5 ساعات بين أشخاص يقومون بلعب “طاولة زهر” وأشخاص يلعبون “الشدة”، أجواء التجهيز للقعدة من المكان للمشروبات والأركيلة كانت تكفي لتعدل مزاجنا، أما اليوم اقتصرت جلسة الأصدقاء على المناسبات الضرورية جداً”.
ويقول “زين”.. “لم نعد نستطيع تأمين تكاليف الجلسة وأنا كموظف مع وجود شغل آخر “يوميتي” لا تسمح لي بشراء “علبة متة” متوسطة 250 غرام التي وصل سعرها ما يقارب 12 ألف ولا حتى علبة معسل التي وصل سعرها إلى ما يقارب 21 ألف”.
وقالت ضحى وهي خريجة من كلية الأدب الإنكليزي في جامعة تشرين ومستقلة مادياً عن أهلها لـ “داما بوست”.. كنا نجلس يومياً تقريباً فلا يهم المكان بقدر ما كان أن نجتمع وأن نجلس دون التفكير بمشروباتنا الخاصة، مع مرور الوقت وغلاء سعر بعض منها قمنا بإلغائها والتقليل من الزيارات لما عليها من تكلفة على صاحبها، حتى وصل الحال إلى المناسبات الضرورية جداً، وأصبحت سهراتنا مرتبطة في مكان ما بعاداتنا التي تغيرت وانعدمت ولا ندري هل تعود يوماً، نحن كشباب من المفترض أن نعيش لحظات جميلة دون التفكير بأبسط الأشياء، ولكن الآن دون جدوى فقد فاتنا القطار، ولم نعد نرى بعضنا إلا بالوفيات والمرض”.