قطاع الزراعة بين فك الحصار الاقتصادي وفرصة النهوض المشروط

يقف قطاع الزراعة في سوريا على عتبة تحول بالغ الحساسية، بعدما أنهكته سنوات الحرب، وتفاقمت أزماته تحت وطأة الجفاف والعقوبات الاقتصادية التي مزّقت سلاسل الإنتاج والتوزيع. واليوم، ومع الرفع التدريجي للعقوبات، وعودة التعاون الدولي، تتجدد الآمال بإعادة إحياء هذا القطاع الحيوي. غير أن هذا الأمل يصطدم بواقع هشاشة بنيوية متراكمة، وتحديات مناخية واقتصادية معقدة، ما يجعل النهوض الزراعي رهينة توازن دقيق بين الانفتاح الخارجي والإصلاح الداخلي.

 

وتساءل موقع سوريا الغد في مقال له عن إمكانية أن يمثّل هذا التحول فرصة فعلية لإعادة بناء الأمن الغذائي، أم مجرد مساحة تنفس مؤقتة في اقتصاد مريض؟ لفهم الواقع والآفاق، نحتاج إلى تفكيك العلاقة بين السياسات، الإنتاج، والدعم الدولي، مستندين إلى أحدث البيانات المتوفرة.

أولاً: واقع منهار رغم كل المحاولات

في ذروة إنتاجه قبل الحرب، بلغ إنتاج القمح السوري 4.8 ملايين طن، ولا يكاد اليوم يصل إلى802  ألف طن لا يغطي سوى19%  من الحاجة الوطنية البالغة 4 ملايين طن، وهذا النقص لا يُعالج محليا فقط، بل اعتمدت الحكومة على استيراد القمح من دول الجوار كالعراق وتركيا، إضافة إلى مناقصات دولية لم تؤدِ إلى نتائج ملموسة في بعض الحالات.

وفي محصول استراتيجي آخر مثل القطن، تراجع الإنتاج من قرابة مليون طن إلى 15 ألف طن فقط، والسبب الرئيس الجفاف وتدهور شبكات الري، وينطبق الأمر نفسه على الخضروات والفواكه، التي تقلص إنتاجها بسبب ارتفاع تكاليف المدخلات ونقص الدعم الحكومي، ما أضعف من قدرتها على تأمين دخل ريفي مستدام أو منافسة السلع المستوردة.

البيانات من البنك الدولي تؤكد الاتجاه ذاته فهناك انخفاض بنسبة 25% في إنتاج القمح والزيتون في 2024 مقارنة بالعام السابق، وارتفاع أسعار الغذاء بنسبة 82%، ما وضع أكثر من16 مليون سوري على حافة انعدام الأمن الغذائي، منهم9.1  مليون في حالة حرجة.

ثانيا: رفع العقوبات – الفرصة التي لا تكفي وحدها

في مايو 2025، أعلنت الولايات المتحدة نيتها رفع جزء من العقوبات عن سوريا، وتزامن ذلك مع تسوية دمشق لمتأخراتها لدى البنك الدولي، ما أعاد تأهيلها للحصول على تمويل تقني ومالي.

لكن ماذا يعني رفع العقوبات فعليا للزراعة؟ من منظور اقتصادي صرف، هو تحرر من قيود استيراد البذور، الأسمدة، المعدات الزراعية، وأنظمة الري، وهي عناصر تعطلت طوال سنوات، ويسمح ذلك بتحديث الإنتاج، تحسين الكفاءة، وخفض كلفة المدخلات التي أرهقت المزارعين.

ولا يجب المبالغة في تأثير رفع العقوبات بمفرده، فإن “التحليل الجزئي” هنا لا يكفي؛ يجب تحليل “سلسلة القيمة” بأكملها، فحتى لو توفرت المعدات، هل توجد مياه؟ هل البنية التحتية صالحة؟ هل توجد آليات تمويل زراعي موثوقة؟ هل يستطيع الفلاح التسويق والتوزيع؟ الإجابة غالبا: لا.

ثالثا: السياسات الحكومية – بداية إصلاح مشروط

في مارس 2025، تولى الدكتور أمجد بدر حقيبة الزراعة، وهو اقتصادي بخلفية تقنية، وأطلق سلسلة ورش عمل تهدف لإعادة هيكلة السياسات الزراعية، مع التركيز على الاستدامة والأمن الغذائي، وخصصت الحكومة 1.2  تريليون ليرة سورية لشراء القمح من الفلاحين، في محاولة لتحفيزهم على العودة للزراعة.

كما تم دعم استيراد القطن والزيوت والذرة الصفراء للمنشآت الصناعية، ووقف استيراد بعض الخضروات بهدف حماية الإنتاج المحلي، لكن هذه الخطوات، رغم أهميتها، ما زالت تتحرك في إطار “إطفاء الحرائق” أكثر من كونها جزءا من رؤية استراتيجية متكاملة.

ووفق تقرير البنك الدولي، فإن الناتج المحلي الإجمالي السوري انكمش بنسبة 1%  في 2025، وبلغت نسبة الفقر المدقع 37.4%.  وأي سياسة زراعية لا ترتبط بسياسات مالية ونقدية وريفية أوسع، ستكون محدودة الأثر.

رابعا: المبادرات الدولية – رافعة حقيقية مشروطة بالحوكمة

أطلقت منظمة FAO خطة طوارئ بقيمة 286.7  مليون دولار للفترة 2025–2027، لدعم الأمن الغذائي وسبل العيش، كما عقدت اجتماعات رفيعة المستوى بين سوريا والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ناقشت دعم قطاع الزراعة.

هذا التحرك الدولي يشكل فرصة ذهبية، لكنه لا يخلو من شروط. فالمجتمع الدولي يريد “حوكمة رشيدة”، وضمانات بأن الدعم سيصل إلى مستحقيه، لا إلى قنوات فاسدة أو غير كفؤة، وهذا يضع الحكومة السورية أمام اختبار شفافيتها وقدرتها على الإصلاح المؤسساتي.

إن التركيز يجب أن ينصب على ما يُسمى بـ”النقاط العقدية للتغيير” في الحالة السورية، وهناك ثلاث نقاط يمكن تحويلها إلى فرص فعلية:

  1. التحول إلى الزراعة الذكية
    الاستثمار في تقنيات مثل الري بالتنقيط، مراقبة المحاصيل بالأقمار الصناعية، وتطبيقات السوق الرقمية؛ يمكن أن يعزز الكفاءة، حتى في ظل محدودية الموارد المائية.
  2. دعم سلاسل القيمة قصيرة الأجل
    إعادة تأهيل مناطق إنتاج قريبة من المدن وتطوير البنية التحتية للتخزين والنقل، تسمح بتقليل الفاقد وتحسين الربحية.
  3. تنمية الريف بمقاربة شمولية
    قطاع الزراعة وحده لا يكفي لنهضة الريف، هناك حاجة لخدمات صحية، تعليمية، وشبكات طرق واتصالات، لضمان استقرار السكان في مناطقهم وتحفيز الإنتاج المحلي.

ورغم هذه الفرص، تبقى المخاطر كبيرة. أبرزها:

  • تغير المناخ حيثيشهد عام 2025 جفافا غير مسبوق، ولم تصل كمية الهطول فيه إلى نصف المعدل السنوي، ما يهدد المحاصيل الشتوية.
  • التمويل المرهون بالاستقرار السياسي فأي اضطراب سياسي يُعيد العقوبات أو يُجمّد التمويل الدولي.
  • انخفاض المساعدات الإنسانية بنسبة 66% في النصف الأول من 2024، ما يترك الملايين بلا دعم غذائي مباشر.
  • اختلالات السوق وارتفاع الأسعار، تقلب سعر الصرف، وغياب رقابة فاعلة قد تحبط جهود التعافي، حتى مع رفع العقوبات.

يقف قطاع الزراعة في سوريا عام 2025 أمام فرصة، لكنها ليست تلقائية فرفع العقوبات بداية شريان حياة، لكنه لن ينقذ الزراعة دون سياسات هيكلية عميقة، تتكامل فيها المساعدات الدولية مع رؤية وطنية ذات مصداقية.

كما يتطلب الأمر من الحكومة أن تنتقل من منطق “الإدارة بالأزمة” إلى منطق “التحول التنموي”، ومن رد الفعل إلى الفعل الممنهج؛ عندها يمكن لهذا القطاع أن يُستعاد كدعامة للسيادة الغذائية، ومصدر دخل كريم للملايين.

 

إقرأ أيضاً: حماة تستعد لاستلام 88 ألف طن من القمح في موسم الحصاد الحالي

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.