خفايا صفقة السويداء: كيف أعادت واشنطن وتل أبيب توزيع النفوذ في سوريا؟

أعادت صفقة السويداء رسم المشهد في قلب الجنوب السوري، فمن محافظة السويداء يظهر واقع جيوسياسي سوري جديد؛ يجمع بين الولايات المتحدة، و”إسرائيل”، والحكومة السورية الانتقالية، وسط تغييب متعمّد للدولة المركزية.

دخلت “إسرائيل” على الخط بضرب مواقع حكومية سورية في دمشق وجنوب البلاد بذريعة حماية الأقلية الدرزية، ما أوقع، وفق تقارير، نحو ثلاثة قتلى وإصابة 34 آخرين، وتوسطت الولايات المتحدة، بدعم من تركيا والأردن، لإعلان وقف إطلاق نار الذي تم الاتفاق عليه بحسب تصريحات السفير الأميركي توم باراك يوم 18 يوليو 2025.

ثم تبلورت وساطة أميركية تقود إلى لقاءات رفيعة المستوى في باريس شارك فيها وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، في أعلى تقارب بين البلدين منذ أكثر من ربع قرن.

جوهر الاتفاق المسرب: بنود تضع المدنيين والميليشيات في قلب اللعبة

حسب الوثيقة التي نشرها المرصد السوري لحقوق الإنسان في 24 يوليو:

  • تتم إحالة الملف الأمني في السويداء إلى الولايات المتحدة، التي تتولّى متابعة التنفيذ، بما يشمل انسحاب قوات العشائر وأمن الدولة إلى ما بعد القرى الدرزية، مع فصائل محلية تتولّى التمشيط والتأكد من خلو المناطق من القوات السورية.
  • تُشكّل مجالس محلية من أبناء السويداء لتقديم الخدمات، وتتأسس لجنة لتوثيق الانتهاكات، ترفع تقاريرها إلى الجانب الأميركي.
  • يُمنع دخول أي مؤسسات حكومية سورية، وتُكتفى بحضور منظمات الأمم المتحدة.
  • يُفرض نزع السلاح عن مناطق درعا والقنيطرة، مع تشكيل لجان أمنية محلية بلا سلاح.

الوثيقة المسربة ترسم نظاما إداريا تتحكم به واشنطن فعليا، ويميز بوضوح بين السلطة المدنية المنزوعة السلاح والسيطرة الأمنية التي خرجت من يد الدولة، ما يثير تساؤلا أساسيا: هل نحن أمام خطة سلام حقيقية أم شرعنة لنفوذ خارجي طويل الأمد؟

التحليل النقدي: قراءة في هندسة النفوذ والشرعية

لا تبرز في قلب الاتفاق المسرب بنودا بل هندسة تقوم بتوزيع مراكز القرار، وتحويل السلطة إلى أدوات محلية تحت رقابة دولية، من هنا تبدأ قراءة أعمق لمعادلة النفوذ الجديدة التي تتجاوز نص الاتفاق لتطال بنيته السياسية والأمنية.

  • تمكين محلي بديلاً عن دولة مركزية

تبدو الوثيقة كخطوة نحو تفويض إدارة المحافظات المحلية إلى المجالس الدرزية، لكن ضمن حدود واضحة، فلا تسليح ولا سلطة تنفيذ، والهدف المعلن هو تأمين السكان، لكن الثمن هو تفكيك دور الدولة المركزية في إدارة الجنوب السوري.

  • دور أميركا: مشرف أم وصي؟

تقول الوثيقة إن الإدارة الأميركية ستتابع التنفيذ، لكن هذا الدور يضعها في مركز السلطة الحقيقية، فبينما تبدو الحكومة السورية خالية من السيطرة، تُهيمن واشنطن على المسائل المحلية، فتكون هي لاعبا أساسيا فوق المشهد السوري.

هذا الترتيب يذكّر ببلدان ما بعد النزاعات حيث تُحلّ قوة دولية مكان الدولة الهشة، مصمّمة على ضبط التوازنات المحلية، فهل يخرج الجنوب السوري من السيادة إلى النفوذ شبه الاستعماري؟

  • “إسرائيل” ودروز السويداء: شريكان أم متناقضان؟

يبدو أن “إسرائيل” قبلت بنفوذ أميركي عوضا عن الجيش السوري في جنوب السويداء، وهي خطوة ربما طمأنت بعضا من الطائفة الدرزية، لكنا أثارت سؤالا حول هل بات الحرس “الإسرائيلي” – الأميركي هو الأمان الوحيد؟

يؤكد السفير يراك أن مسألة تسليم السلاح وبناء “هوية سورية جديدة” تشمل الدروز والبدو والسنة معا، لكن تطبيق ذلك يبدو صعبا مع قوى قبلية محلية لم تُدمج بعد داخل الدولة.

  • مدى قابلية التنفيذ والتحديات

يفتقر الاتفاق إلى ضمانات واضحة لمنع انهيارات مفاجئة، فهناك فصائل مسلحة في مساحة من التنافس الداخلي، وسلطات مركزية لا زالت هشة، فماذا لو انسحب الأميركيون؟ هل يقع الجنوب في الفوضى مرة أخرى؟ في هذا الواقع ترتفع احتمالات تحول المجالس المحلية إلى أهداف للعودة القسرية للدولة أو لإرهابيين أو لميليشيات نافذة.

مقارنة مع اتفاقات مماثلة في مناطق الصراع

تُظهر التجارب التاريخية أن التسويات التي تُبقي على مناطق نفوذ خارجة عن سيطرة الدولة المركزية، حتى وإن بدت حلولا مؤقتة، تتحول وفق الظروف السياسية إلى أنظمة حكم موازية تخضع لإرادة خارجية، فما يتم فرضه كإدارة لأزمة محلية يصبح تأسيسا لهرم سلطة جديد، يُفرض من أعلى، فيقوّض مفهوم السيادة لصالح مراكز نفوذ بديلة.

ففي العراق بعد 2003، تم تأسيس واقع سياسي وأمني قائم على مناطق “آمنة” منفصلة عن سلطة الدولة المركزية، تحت غطاء التدخل الدولي، وهو ما أفسح المجال لاحقا لتغلغل النفوذ الإيراني قبل انسحاب الأميركيين، وفي السياق السوري، يتكرّر النمط ذاته عبر اتفاق يتم تسويقه كـ”حالة مؤقتة”، لكنه يُمهّد لهيمنة خارجية دائمة على جنوب البلاد، وسط غياب فعلي لمقومات السيادة الوطنية.

انعكاسات سياسية وقانونية

يمثل منع دخول المؤسسات الحكومية السورية إلى محافظة السويداء انتقاصا واضحا من سيادة الدولة المركزية، ويكرّس حالة من الانفصال الإداري والسياسي؛ تعيق إعادة اندماج المحافظة ضمن المنظومة الوطنية الرسمية، فهذا الإقصاء لا يقتصر على الجانب الرمزي، بل يؤسس فعليا لسلطة بديلة تعمل تحت وصاية دولية، ما يجعل من السويداء نموذجا لتقسيم إداري غير معلن.

ستتحول المحافظة إلى حقل تجارب لحكم محلي محدود الصلاحيات، خاضع لرقابة خارجية، ما يُغري بتكرار النموذج في مناطق أخرى مثل إدلب أو درعا، تحت ذرائع التهدئة أو حماية الأقليات، وما يرفع خطورة هذا التوجه هو احتمال تحويل الطائفة الدرزية إلى كيان سياسي محصور في إطار إداري منزوع السلاح، أشبه بـ”استثناء نظامي” يُعيد إنتاج الطائفية بصيغة أكثر نعومة، لكنه يهدد وحدة الدولة وتماسكها.

فرصة أم تهديد؟

يقدّم الاتفاق فرصة لكبح دائرة العنف، وإحداث توقف مؤقت للقتال، لكنه يشكل أيضا نصا لتقاسم النفوذ، فإذا نجحت المجالس المحلية وبدون سلاح، وتم توثيق الانتهاكات، فستطور مساحة لحياة مدنية في ظل حالة اضطراب، لكن التاريخ السوري بعد 2024 علّمنا أن المستخدمين الخارجيين للنزاعات يستثمرون الفراغ للهندسة السياسية، وليس للإعمار الوطني.

على الحكومة السورية الجديدة أن تتعامل بحذر، والتحدي الحقيقي أمامها ليس فقط إعادة الأمن إلى السويداء، وإنما استعادة شرعية الدولة المركزية في إطار دستور يُحمّل الجميع مسؤوليات متساوية، وليس في ظل وصاية مؤقتة أميركية تؤجل أسئلة “المشروع السياسي” و “العقد الاجتماعي” وغيرها من القضايا التي تتجاهلها دمشق.

الجغرافيا السياسية لا تُكتب فقط بتوزيع القوات، بل بتوزيع من يتحكم بالساحات المحلية، وهذه الصفقة، في ظاهرها محاولة لإنقاذ المدنيين، وفي باطنها مصنع لنفوذ جديد يقوده الأميركيون، ويستفيد منه الاسرائليين فقط، بغطاء محلي خالي من السلاح ومصرح بتقديم خدمات فقط.

إذا اعتقدت الدولة السورية أن هذا التوازن مُوقت، فإنها تفتح بابا لعلاقات هشّة يحكمها غياب السيادة، وإذا تعهدت القوى المحلية بالسير نحو بناء دولة متجانسة، فأمامها طريق طويل، فهل يصبح الجنوب جسرا للمصالحة أم ميدانًا لقوى احتلال ناعمة؟

 

إقرأ أيضاً: خسائر استراتيجية فادحة: صالح الحموي يكشف ما خسره أحمد الشرع بعد انتفاضة السويداء

إقرأ أيضاً: أحداث السويداء: كيف يرى السوريون أسباب التصعيد ومن يتحمّل المسؤولية؟

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.